الفصام الحضري!!
السبت - 23 أغسطس 2025
Sat - 23 Aug 2025
مرض الفصام هو اضطراب عقلي يصيب الإنسان ليفقده الإحساس بالإدراك والتفكير المنظم ويؤثر على سلوكه في شكل هلوسات، وضلالات. يعاني مريض الفصام من العزلة الاجتماعية والتشتت في التفكير وعدم القدرة على اتخاذ القرارات السليمة. ولكن ما علاقة ذلك بالمدن؟ كمخطط عمراني أنظر دوما للمدينة باعتبارها كائنا حيا ينمو ويتعايش في حال توفر الظروف الحياتية المتكاملة التي تضمن استدامته. اليوم، لم تعد المدينة مجرد هيكل مادي أو بيئة حاضنة تهدف إلى استقرار المجتمعات؛ بل هي بمثابة «مسرح اجتماعي» يعكس الحالة المزاجية، والقيم السلوكية، والخصائص الاجتماعية، والوضع الاقتصادي.
المدن تسعى لتحليل الموارد الكامنة من أجل تنمية المجتمع والارتقاء بأساليب المعيشة وخلق الوظائف وتحقيق الإيرادات في إطار ينسجم مع مبادئ الاستدامة. وفي محاولة لفهم عميق للتحولات التي تشهدها المدن المعاصرة، دعوني أستعير مصطلح «الفصام الحضري» وهو ليس مصطلحا علميا معترفا به في مجال التخطيط العمراني، ولكني أسوقه كاستدلال مجازي لتوصيف حالة الاعتلال والعزلة الحضرية التي تعاني منها بعض المدن المعاصرة.
عندما نسقط نموذج المقاربة التخيلي هذا يتضح أن بعض المدن تظهر أعراضا مشابهة تماما لمرض الفصام، ولا سيما عندما نتناول المدن باعتبارها عنصرا يترجم الأنساق الاجتماعية والتشريعات العمرانية والبنية الإجرائية والأهداف المؤسساتية. تعكس لنا هذه العوامل مجتمعة عوامل انقسام المدن بين حالة المظهر والجوهر؛ وبين الأهداف والواقع؛ وبين الفرص والإمكانات؛ وبين القدرات والموارد المتاحة.
في الواقع، هذه المدن فقدت قدرتها على التفاعل مع المجتمع وأصبحت جسدا بلا روح. تصاغ سياساتها العمرانية من الأعلى إلى أسفل وتعتمد على بنية عمرانية جامدة، تبدو كمظهر جسدي براق من الظاهر ولكنه خاو من الداخل. يتم تجديد البنية العمرانية في كل مرة دون التفكير في إصلاح التشريعات العمرانية والمسار الإجرائي الذي ساهم في تشكيل هذه الأنساق المادية لتتكرر المشكلة ولو بعد حين.
نرى جليا هذه المدينة وقد أضحت أجزاؤها مشتتة فلا توجد خطة محلية جامعة ترتقي بالمجتمع وأساليب معيشته. مدينة رهينة وعود وشعارات غير مرتبطة بنظم عمرانية متسقة ومستدامة. هلوسات حضرية هي تماما كما يراها مريض الفصام أشياء غير موجودة على الواقع نتخيلها ولكن لا نعيشها. خطط عمرانية في مشاريع براقه لم تتبع منهجا إجرائيا واضحا ولا تعكس احتياجات المجتمع. ومشاريع تخفي وراء بريقها معاناة المجتمع مع قضايا البطالة، والإسكان، والنقل، والخدمات الصحية والتعليمية. ضلالات عمرانية بنيت على استراتيجيات حضرية لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع، ليس نتيجة نقص في التمويل؛ بل لهشاشة البنية المؤسسية وهو ما يعطي إيحاء بالتناقض بين الأهداف الاستراتيجية والممارسة الواقعية.
مدن تعاني من تشتت النسيج العمراني، تفصل مكوناتها بأحياء سكنية غير مترابطة وتغيب الرؤية التكاملية ليحل محلها نسيج مفكك يفتقر إلى الانسجام. إنها تعكس حالة من غياب جودة الحياة الحضرية وضعف المشاركة المجتمعية وعدم مواءمة البنية الحضرية لاحتياجات ساكنيها. مدن تتصرف كما لو أنها كانت تعاني من اضطراب إدراكي، فقدت القدرة على اتخاذ القرار وتعيد ارتكاب الأخطاء تلو الأخطاء دون الاستفادة من توثيق دروس الماضي. تتخذ قراراتها الحضرية دون إطار واضح للحوكمة ومشاركة حقيقية لأطراف أصحاب المصلحة كافة. تدار دون تنسيق، وتفتقر إلى الذاكرة المؤسسية والموارد البشرية المتخصصة في تخطيط المدن. باختصار إنها مدن تعاني من مرض الفصام الحضري!