السعودية وصناعة السلام
السبت - 23 أغسطس 2025
Sat - 23 Aug 2025
أن تملك الأدوات لجمع المتخاصمين في هذا الوقت بالذات؛ فأنت بارع، وأن تستطيع إسماع صوتك للعالم بأسره، وتقول ما يمليه عليك الضمير، فأنت كبير. بعيدا عما يمكن أن يرتضي به أو يرفضه أي طرف. هذا لا يعني، ولا يقدم ولا يؤخر.
الأسبوع المنصرم كان حافلا بالأحداث. أهمها اللقاء الذي شهدته ألاسكا الأمريكية الباردة، بين قطبي العالم. توقفت الأرض ومن عليها، من أسواق بورصة ونفط وذهب ومعادن نفيسة بانتظار ما يمكن أن يتمخض عنه لقاء القيصر فلاديمير بوتين، والأشقر دونالد ترامب، الذي يفاجئ العالم كل دقيقة بما لا يتوقع الجميع.
وسيد الكرملين ذكي أكثر مما يخال للبعض. وافق على اللقاء لعدة أسباب. ما أهمها؟ اكتساب الشرعية السياسية العالمية، بعد فتح أبواب النار مع أوكرانيا. فلا يمكن إنكار أن روسيا بعد اندلاع الحرب أصبحت منبوذة إلى حد ما، وبات عليها ما عليها من الضبابية الدولية وكثير من التساؤلات، لذا هرول بوتين لذلك اللقاء.
وترامب في المقابل ليس بهين، فرش السجاد الأحمر مستقبلا غريم بلاده التقليدي، وأعتى المقاتلات تحوم في كبد السماء، والأخرى رابضة في الأرض، ماذا يعني ذلك؟ إنها رسالة تختصر القوة العسكرية الأمريكية، أرادت أمريكا أن يراها الرجل الأول، الذي يدير دولة منافسة لها استراتيجيا، ولم تهدأ معها في الحروب والمناكفات منذ حقبة الاتحاد السوفييتي المفكك، وربما ما يسبق ذلك.
كان عنوان الملف الكبير الملقى على الطاولة إنهاء حرب أوكرانيا. وكييف بالنسبة لواشنطن قضية هامشية، إنما يمكن استغلالها لإثبات براعة الإدارة الترامبية من جانب، ومن جانب آخر تهميش الدور الأوروبي في الوقت ذاته، الذي تسعى الإدارة الأمريكية إلى ابتلاعه، ووضعه في خانة التابع لمواقفها الاستراتيجية.
وهذا ترجمته بعض العواصم في القارة العجوز، بردود فعل على ذاك اللقاء، وقد أبدى البعض منها تفاؤلا محفوفا بالحذر، والآخر قلل من أهمية ومحورية تلك الخطوة، في حين لا يمكن إغفال بعض المواقف، والتي لم تعول على الدور الأمريكي، من منطلق خشية السيطرة على القرار الأوروبي الخاص.
أعتقد أن هناك خطوة يجب النظر إليها بعمق، ما هي؟ ترامب قد استدعى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وأهانه في عقر البيت الأبيض. وقتها تم تحوير الأمر وربطه بعدم ارتدائه بزة رسمية، وهذا برأيي تسطيح للوعي العالمي، ما إذا فهمنا أن الأمر أكبر من تلك التفسيرات، لارتباطها بالحقبة التي سبقت فترة ترامب الرئاسية - أعني فترة جو بايدن - التي غذت أوكرانيا بالسلاح الأمريكي بالمجان. بمعنى أن ترامب أراد تصفية حساباته مع سلفه بالملف الأوكراني.
وهذا بزعمي تفسير رفع ترامب سقف آماله، حين وضع عينه على المكتنزات الكامنة في باطن الأرض الأوكرانية، أو كما سماها بـ«معادن نادرة»، تفوق قيمتها أكثر من نصف مليار دولار. أراد الرجل - وهو بارع في الاقتصاد ولغة الأرقام -، إلغاء فكرة «هدايا السلاح الأمريكي المجانية». لذلك طلب علنا من كييف دفع فاتورة السلاح الذي منحه بايدن لأوكرانيا بلا مردود مادي ولا معنوي ولا حتى عسكري، ما إذا نظرنا إلى تفوق ميزان القوى الروسية على الأوكرانية.
المهم؛ يمكنني القول إن كل ما سبق هو تفصيل صغير في كل كبير. ما المقصود؟ أقصد أن الطاولة التي اجتمع حولها الزعيمان، وعاش العالم على أعصابه وقتها، بانتظار النتائج، كانت السعودية عرابته ومؤسسته وصانعته.
قد يسأل سائل، كيف؟ الجواب: المملكة هي من رتبت لقاء مسبقا بين قيادات الدولتين. وهي من أنهت قطيعة بين واشنطن وموسكو. ولفهم ذلك يجب العودة لفبراير الماضي، حين اجتمع في الدرعية «عاصمة الدولة السعودية الأولى»، المتخاصمون على مائدة واحدة.
وفي الحقيقة إن ذلك الاجتماع بين القيادات الأمريكية والروسية، والذي ترأسه من الجانب الأمريكي وزير الخارجية ماركو روبيو، ومن الطرف الروسي نظيره الروسي سيرجي لافروف، وشهده وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، ومستشار الأمن الوطني مساعد العيبان، جسد اختراقا للسياسة السعودية، تمكن من تقريب وجهات النظر بين فريقيين عنيدين، ومتخاصمين منذ عشرات السنين وربما عقود.
أتصور أن اختيار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد عودته لموسكو من ذلك الاجتماع، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ومهاتفته لم تكن للمجاملة، لا بل لوضعه في صورة ما تمخض عنه اللقاء بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب. السؤال؛ لماذا؟ لسبب واحد فقط، لأن المملكة هي من أسست لأرضية التقارب الروسي - الأمريكي.
إن الإيمان العالمي بالثقل الاستراتيجي السعودي هو مصدر الثقة التي تحظى بها الرياض في عواصم العالم، كونها تمثل الرصانة السياسية التي يحتاجها العالم، ما يمكنها إخماد الحرائق، ونزع فتيل الفرقة والخصومة، لتنعم الأرض بالتآخي ، وصولا إلى البناء ونهضة الشعوب والدول.
لا أبالغ إن قلت إن السعودية باتت تقوم بدور منظمات عالمية من ضمن أدوارها ضبط العالم، وتعميم السلام، كالأمم المتحدة ومجلس الأمن والبقية الباقية.
هذه الحقيقة. انظروا لأدوارها، واستمعوا لصوتها، شاهدوا حضورها بعينين لا بعين واحدة.
حقا إن السعودية.. صانعة السلام.
والسلام.