أحمد محمد القزعل

الذات في مواجهة التغيير: كيف تحمي هويتك؟

الخميس - 21 أغسطس 2025

Thu - 21 Aug 2025

في عالم يتقلب على إيقاع متسارع تطوى فيه المسافات وتطوق فيه الأرواح بتحديات العولمة والانفجار الرقمي، تبرز الهوية الذاتية كمرساة روحية وفكرية تحفظ للإنسان توازنه، وتمنحه خريطة معنوية لرحلته في الحياة، فالهوية الذاتية ليست مجرد بطاقة تعريف، بل هي عملية ديناميكية حيوية مستمرة، تهيئ للفرد تشكيل نفسه في كل لحظة وفق تجاربه ومعتقداته ومحيطه الاجتماعي والثقافي.

الهوية الذاتية هي ذلك النبض الخفي الذي ينظم أفكار الإنسان وسلوكه، وهي البوصلة التي توجهه في بحر الحياة المائج، وتمنحه إدراكا عميقا لـ"من هو؟"، و"ماذا يريد؟"، و"كيف يعبر؟". إنها ليست وصفا ساكنا، بل تكوين نابض ومركب من القيم والمبادئ والذكريات والطموحات والصراعات الداخلية وحتى الأحلام المؤجلة، وتشكل القيم الأخلاقية اللبنة الأولى في بناء هذه الهوية، إذ تنسج المبادئ شبكة خفية من الانضباط الذاتي تجعل الفرد أمينا على ضميره في الخفاء قبل العلن، ثم تأتي الطموحات والأهداف كمنارات ترشد خطى الفرد وتمنحه بعدا للمستقبل، بينما يشكل التصور الذاتي - أي صورة الفرد عن نفسه - مرآة تعكس من خلالها قدراته وعيوبه ونقاط ضعفه وإنجازاته، فيكتشف ذاته من جديد كلما نظر في تلك المرآة بصدق وتأمل.

ولا يمكن الحديث عن الهوية الذاتية دون الوقوف عند التجربة الإنسانية، فهي المدرسة الكبرى التي تصقل الوجدان وتلون الشخصية، وتضيف إلى الهوية ظلالا جديدة في كل مرحلة، فكل لحظة ألم أو فرح، كل قرار مصيري، كل علاقة، كل انتماء، كلها تساهم في تشييد هذا البناء الداخلي العميق، ومن الأسس الجوهرية لبناء هذه الهوية: الوعي الذاتي؛ أي إدراك الفرد لمشاعره وأفكاره وميوله وانفعالاته، وهو إدراك يتجاوز مجرد الملاحظة إلى التفسير والفهم، ومن ثم تأتي الاستقلالية تلك القدرة النبيلة على اتخاذ القرار بوعي حر ومسؤول، دون أن تكون الذات مرهونة بتأثيرات خارجية أو ضغوط اجتماعية، ثم يلتحق بذلك التفكير النقدي الذي يمنح الفرد مصفاة ينقي بها معتقداته ومفاهيمه؛ ليعيد بناء هويته على أساس أكثر اتساقا وصدقا.

لكن في زمن باتت فيه العوالم تتقاطع عبر شاشات وتتنازع فيه الثقافات على العقول، يصبح الحفاظ على الهوية الذاتية تحديا وجوديا، فالعولمة تفرض نماذج جاهزة للهويات، والتكنولوجيا تشكل امتدادا للذات أحيانا، وهنا تبرز الحاجة إلى هوية مرنة تجمع بين الثبات والانفتاح، هوية تستند إلى الجذور الثقافية والقيم الراسخة دون أن تنغلق على ذاتها بل تمتد لتفهم الآخر وتحاور الاختلاف، ومن أبرز أدوات العصر لتعزيز الهوية الذاتية: الذكاء العاطفي الذي يمكن الفرد من فهم ذاته ومشاعر الآخرين، وبناء جسور إنسانية تغني التجربة الذاتية، كذلك يعد الانخراط في جماعات ذات قواسم مشتركة من حيث القيم والرؤى، محفزا قويا لبناء شعور بالانتماء والأصالة والدعم المتبادل.

وإن كانت الهوية الذاتية تتشكل في الداخل، فإنها لا تنفصل عن الخارج، فهناك علاقة جدلية بين "من نكون" و"كيف نعيش"، بين الإيمان بالذات وبين القدرة على التأثير الإيجابي في العالم؛ لهذا فإن صناعة الهوية الذاتية ليست ترفا فلسفيا، بل ضرورة وجودية في زمن تتآكل فيه الفروق وتتنوع فيه المعاني.

إن صناعة الهوية الذاتية أشبه ما تكون برحلة إلى بيت في أعماق النفس؛ بيت من قيم ومعتقدات وتجارب وأحلام يبنيه الإنسان لبنة لبنة، ويجمله بالصبر والإيمان والصدق والوعي، وفي عالم يصنف الناس حسب معايير سريعة وعابرة، تظل الهوية الذاتية الأصيلة هي جواز العبور إلى حياة ذات مغزى وعطاء حقيقي وسلام داخلي عميق.