الحقيقة الصامتة وراء الوجوه المتماسكة
الخميس - 21 أغسطس 2025
Thu - 21 Aug 2025
في حياتنا اليومية نلتقي بالكثير من الأشخاص الذين يبدون أمامنا في كامل قوتهم وتماسكهم، يضحكون، يعملون، يشاركون في تفاصيل الحياة كما لو أن كل شيء على ما يرام. لكن خلف هذه الوجوه الصامدة قد تختبئ معاناة لا يراها أحد، صراع داخلي ينهش القلب والعقل في صمت، اسمه المرض النفسي.
لقد عايشت ورأيت بنفسي حالات عديدة تؤكد أن المرض النفسي ليس نادرا ولا استثنائيا كما يظن البعض، بل هو واقع حاضر في كل المجتمعات، غنيها وفقيرها، ومتعلمها وأميها. هذه المعاناة قد لا تظهر بشكل واضح، لكنها تسكن خلف التفاصيل الصغيرة: ابتسامة متعبة، عزلة غير مبررة، نوبة غضب مفاجئة، أو صمت طويل يحمل في داخله آلاف الكلمات المكبوتة.
الأمراض النفسية ليست نوعا واحدا، بل طيف واسع يشمل الاكتئاب، القلق، الوسواس، الصدمات النفسية، وغيرها. أسبابها متعددة؛ منها الضغوط اليومية التي تتراكم دون أن يجد الإنسان متنفسا، ومنها تجارب قاسية مثل الفقدان أو الخيانة، ومنها ما يرتبط بالبيئة المحيطة أو حتى بالعوامل الوراثية. ومع ذلك، نجد أن عدد المختصين المؤهلين للتعامل مع هذه الحالات قليل مقارنة بحاجة الناس الماسة، مما يدفع الكثيرين إلى إخفاء مشاكلهم والاكتفاء بلبس قناع «أنا بخير».
المشكلة الأكبر التي نواجهها في مجتمعاتنا العربية هي النظرة السلبية تجاه المرض النفسي. يختزل غالبا في مفهوم «الجنون» أو يفسر على أنه ضعف في الإيمان أو هشاشة في الشخصية. هذه العقلية الخاطئة تجعل المصاب يعيش صراعا مزدوجا: ألم داخلي ينهشه من الداخل، وخوف من نظرة المجتمع إذا تجرأ وطلب المساعدة. كم من إنسان احتاج يوما كلمة دعم صادقة فوجد بدلا منها سخرية أو استهزاء أو تهميشا؟
وهنا يأتي دور الوعي الذاتي، فالإنسان أول من يجب أن يعترف بواقعه. قال الله تعالى: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾. هذه الآية الكريمة تحمل مفتاح التغيير؛ الاعتراف أولا، ثم السعي للعلاج ثانيا. فالمواجهة ليست عيبا، والضعف ليس نهاية الطريق، بل الاعتراف بالمشكلة هو أول خطوة للقوة الحقيقية.
لكن المسؤولية لا تقع على الفرد وحده. نحن بحاجة إلى تغيير مجتمعي شامل، يبدأ من البيت ثم المدرسة ثم بيئة العمل. الدعم النفسي لا يعني دائما أدوية أو جلسات علاجية فقط، بل قد يبدأ من كلمة صادقة من صديق، أو استماع حقيقي من أحد أفراد العائلة، أو مساحة آمنة للتعبير دون خوف من الأحكام المسبقة. تخيلوا كم من الأرواح كان يمكن إنقاذها لو وجد حضن يحتوي، أو أذن تصغي بإخلاص؟
من المؤسف أن هناك من يظن أن التماسك الظاهري دليل عافية، بينما الحقيقة أن بعض أقوى الوجوه التي نراها كل يوم تخوض معارك شرسة مع ذاتها في صمت. وهذا ما يجعلنا مطالبين جميعا بكسر حاجز الصمت، وبناء بيئة مجتمعية أكثر رحمة وتفهما.
الخلاصة: الأمراض النفسية واقع لا يمكن إنكاره، والسكوت عنها لا يلغي وجودها. الاعتراف بها، وتغيير نظرة المجتمع نحوها، وتوسيع دائرة الدعم والعلاج، خطوات أساسية نحو مستقبل أكثر وعيا ورحمة. لنكن جزءا من الحل لا من المشكلة، ولنمد أيدينا لكل من يقف خلف وجه متماسك يخفي خلفه صرخة استغاثة صامتة.