بين الكفاءة النفسية والوظيفية... أيهما يُقوّم أولا؟
الخميس - 21 أغسطس 2025
Thu - 21 Aug 2025
استمعت مؤخرا إلى حلقة من بودكاست وردت فيها قصة لافتة، جرت في إحدى الجهات الخليجية. تحدث الضيف عن مدير يصعب التعامل معه، ولم يكن أحد قادرا على التفاهم معه سوى موظفة واحدة، كانت تحرص على تقديم البخور له يوميا. هذا السلوك - على بساطته - أكسبها امتيازات لم ينلها غيرها، بينما ظل زملاؤها يعانون من تعامله المتسلط.
قد تبدو القصة طريفة، لكنها تفتح تساؤلا جادا: هل كان هذا المدير - أو غيره من القيادات رجالا ونساء - يعاني من اضطراب في الشخصية؟ وهل كان يمكن حماية بيئة العمل من هذا التأثير النفسي السلبي لو خضع لتقييم سلوكي ونفسي قبل توليه المنصب؟
اضطرابات الشخصية لا تعني الجنون أو فقدان الأهلية، لكنها أنماط سلوكية ثابتة تؤثر على طريقة التفكير والتفاعل واتخاذ القرار. سواء كان القائد رجلا أو امرأة، فقد تظهر سمات نرجسية أو ارتيابية أو وسواسية أو اعتمادية، تعيق التواصل السليم، وتربك بيئة العمل، وتضعف الثقة الجماعية.
على سبيل المثال، يعد اضطراب الشخصية النرجسية من أكثر الأنماط التي قد تتسلل إلى المناصب القيادية دون أن تكتشف. فالنرجسي قد يبدو في البداية قائدا واثقا، طموحا، ومندفعا نحو الإنجاز، لكنه في الواقع يعاني من تمحور مفرط حول ذاته، ويقلل من شأن الآخرين، ويتعامل مع من حوله كأدوات لخدمة صورته.
في الممارسة الإدارية، يظهر هذا الاضطراب في صورة تجاهل للأفكار القادمة من الفريق، ورفض لأي نقد، وتركيز مفرط على الإنجازات الشخصية التي يسلط عليها الضوء إعلاميا، دون اعتبار للمجهود الجماعي. أما الأثر على الفريق، فهو عميق؛ فالموظفون يشعرون أنهم غير مرئيين، وغير مقدرين، وتستنزف طاقتهم في محاولة إرضاء مدير لا يرى إلا نفسه. ومع الوقت، يتآكل الانتماء، ويفضل الكفاءات الانسحاب، أو الصمت، أو التكيف السلبي.
الأخطر أن بعض هذه الأنماط قد تفهم خطأ على أنها قوة حزم أو كاريزما، بينما هي في الحقيقة خلل في النظرة للآخر واضطراب في إدارة العلاقات. وقد يحقق القائد المصاب بها إنجازات ظاهرية مؤقته، لكنه يجهد فريقه ويقوض الثقة الداخلية في المؤسسة.
في ظل التحول الكبير الذي تشهده المملكة، وفي إطار رؤية الخير 2030، أصبحت المؤسسات مطالبة بأن تكون أكثر عدالة وإنصافا وتوازنا، ليس فقط في مخرجاتها، بل فيمن يقودها. ولا يمكن أن يتحقق ذلك دون أن نعيد النظر في معايير التمكين الإداري.
لقد أكد سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - رعاه الله - في أكثر من مناسبة، أن المرحلة الجديدة تعتمد على الإنسان، وأن الكفاءة والشفافية والنزاهة هي الأساس في أي تمكين. ومن هنا، فإن النظر إلى الجوانب النفسية والسلوكية للقائد لم يعد أمرا ثانويا، بل أصبح جزءا من العدالة التنظيمية وضمان بيئة عمل آمنة ومحفزة.
ومن هنا، فإن اعتماد اختبارات شخصية وسلوكية مقننة يشرف عليها مختصون مستقلون، يجب أن يكون جزءا من عملية الترشيح، مثلها مثل المؤهلات والمقابلات. على أن تكون نتائج هذه التقييمات شفافة، ومفتوحة للمرشح، لا حبيسة الأدراج أو الملفات.
وقد بدأت بعض الدول مثل الولايات المتحدة، وسنغافورة، وألمانيا، إلى جانب منظمات دولية كالأمم المتحدة، وشركات كبرى مثل Google، باعتماد تقييمات نفسية وسلوكية للمناصب القيادية، إدراكا منها أن الاتزان النفسي والسلوك المهني المتزن ليسا خيارا، بل ضرورة تنظيمية. وفي السياق المحلي، لفت انتباهي مؤخرا ما نشرته أكاديمية تطوير القيادات الإدارية في معهد الإدارة العامة، حول آلية علمية للتقييم القيادي، وضعت لرفع كفاءة المنظمات الحكومية بما يتوافق مع الثقافة المحلية ومتغيراتها. وتشمل هذه الآلية تقييما سيكومتريا للسمات الشخصية، ومركز تقييم متخصصا يحاكي واقع العمل. إن مثل هذه المبادرات الوطنية تمثل خطوة مهمة نحو ترسيخ مفهوم الكفاءة النفسية في بيئة العمل القيادي، وتؤكد أن المملكة لا تواكب فقط الاتجاهات العالمية في هذا المجال، بل تعيد تشكيلها بما يتلاءم مع أولوياتها التنموية، ورؤية 2030 التي تضع الإنسان في صدارة الاهتمام.
هذه التقييمات لا تهدف إلى الإقصاء، بل إلى التطوير والوعي، فهي تتيح للمرشح فهما أعمق لجوانب قوته وضعفه. كما تمكن المؤسسة من تقديم الدعم المناسب عند الحاجة، وتجنب الفريق الإداري بيئة يحكمها الانفعال، أو تسودها الشكوك، أو يهيمن عليها طابع الفردية المطلقة.
المؤسسات تنهض أو تتعثر بناء على من يقودها. وليس من العدالة أن تبقى بيئة العمل رهينة لشخصية لا تظهر حقيقتها في السيرة الذاتية. فالقائد الحقيقي يقاس بسلامة منطقه، واتزانه، وعدالته قبل شهاداته وخبراته. لقد آن الأوان أن نرفع الوعي بكفاءة جديدة للقيادة... الكفاءة النفسية.
DrFahadAbd@