ياسر عمر سندي

من الثلاثين إلى الأربعين ورحلة تسديد الدين

الخميس - 21 أغسطس 2025

Thu - 21 Aug 2025


شريط الحياة رحلة إنسانية مختزلة بثلاث كلمات «كما تدين تدان» بمعنى أن الجزاء يرد لصاحبه ويراه حاضرا رأي العين معجلا في الدنيا قبل الآخرة وهو أسلوب التعامل مع الوالدين.

بسورة الأحقاف هذه الآية التي بدأت بمخاطبة إنسانية للبشر بتسليط الضوء على كيفية التعامل السلوكي الخاص للوالدين «ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه».

سأتناول المقال من خلال خمسة محاور رئيسية لمسار حياة الإنسان وربط رحلته الجسدية والنفسية ببر الوالدين وشكره للنعم وانعكاس أثر ذلك على التربية وعلاقة الأبناء بآبائهم وإدراك الحقوق المتبادلة بينهم.

المحور الأول: الحمل والفصال بداية الوصاية ورحلة التربية إلى النضج
عندما يخبرنا القرآن أن «حمله وفصاله ثلاثون شهرا»، فهو يرسم لوحة من المعاناة الرحيمة التي تقدمها الأم من فترة الحمل، ومشقة الولادة، والتعب المتتابع ودور الأب ومشاركته في حمل هم الرزق، وعبء الكد والعمل، ليهيئ للطفل وأمه حياة كريمة.

المحور الثاني: التربية استثمار العمر
التربية ليست مهمة عابرة تنتهي عند الفطام، بل هي مشروع حياة. منذ أول كلمة يسمعها الطفل، وأول موقف يشهده، وأول قيمة يتعلمها، تتشكل ملامح شخصيته وقد قال النبي صل الله عليه وسلم «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» فإهمال التربية لا يضيع مستقبل الأبناء فقط، بل هو إثم يتعدى أثره إلى الأجيال القادمة.

المحور الثالث: بلوغ الأربعين محطة الوعي
«حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة» عند هذه المرحلة، يكتمل نضج الإنسان الجسدي والعقلي، وتصبح خبراته أوضح، ورؤيته للحياة أعمق. هنا يبدأ في مراجعة ماضيه، والتفكير فيما بقي له من عمره، ولهذا جاء في الآية أن الإنسان في هذه المرحلة يدعو «رب أوزعني أن أشكر نعمتك»، فيجمع بين شكر النعمة، والاعتراف بفضل الوالدين، والسعي لإصلاح الذرية. إنها دورة حياة متكاملة، يتلقى فيها الإنسان البر صغيرا، ويؤديه كبيرا.

المحور الرابع: بر الوالدين وأجر التربية
بر الوالدين ليس مجرد عادة اجتماعية، بل هو عبادة عظيمة قال عنها نبي الرحمة حين سئل عن أحب الأعمال إلى الله «الصلاة على وقتها»، قيل: ثم أي؟ قال «بر الوالدين». أما أجر التربية، فهو من الصدقات الجارية، كما في الحديث «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» فالولد الصالح ثمرة تربية صالحة، وأثرها يمتد بعد موت الوالدين.

المحور الخامس: الحقوق المتبادلة بين الآباء والأبناء
حقوق الآباء: البر، الإحسان، حفظ الكرامة، والدعاء لهما في حياتهما وبعد وفاتهما؛ أما حقوق الأبناء: التربية على الإيمان، وتعليم الخير، وحماية الفطرة، وتوفير بيئة آمنة وداعمة.

قال الإمام ابن القيم لخص ذلك بقوله «من أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء».

الرحلة بين الثلاثين والأربعين، يعيش الإنسان ذروة عطائه، لكنه أيضا يقترب من النصف الثاني من عمره. هنا، تذكره الآية أن يشكر نعم الله، وأن يعترف بفضل والديه، وأن يسعى ليترك ذرية صالحة. إنها دعوة لأن نفهم أن التربية ليست مسؤولية مرحلة بل رسالة مراحل عمرية، البر ليس واجبا وقتيا بل ممتد خلال الحياة وبعد الوفاة.

Yos123Omar@