سور وأسوار
الأحد - 17 أغسطس 2025
Sun - 17 Aug 2025
قد أشرت في أكثر من موضع ومقال إلى مسألة غياب الفكر التكاملي بين الخدمات العامة في الحي السكني وفي المدن بشكل عام، فالكثير من المنشآت التعليمية والخدمية والصحية يتم تصميمها بشكل منعزل وفي كيانات مستقلة دون وجود أي ترابط بينها. تبقى هذه الخدمات محاطة بالأسوار من جميع الجهات وكأنها منشآت عسكرية حصينة؛ إذ لا يمكن الاستفادة من الفراغات الداخلية لهذه المنشآت وربطها في النسيج العمراني للحي السكني. العديد من المساجد، والمدارس، والمراكز الصحية معزولة عن سياقها الحضري على الرغم من وجود فرصة لتعزيز الاتصالية بينها وبين الحدائق والفراغات العامة ومسارات المشاة لتشكل منظومة عمرانية مترابطة تخلق بيئة مشاة متكاملة. المسألة لا تقتصر على الخدمات الصغيرة فحسب؛ بل يمكن أن نشاهد ذلك جليا في العديد من المشاريع الضخمة بما فيها الجامعات، والمراكز الثقافية، والخدمات الحكومية، والتي تحظى بتصاميم معمارية نموذجية ولكنها مبنية داخل كيانات مغلقة؛ فالجامعات تحيط بها الأسوار من كل جانب، والمستشفيات الكبرى تعزل عن محيطها بأسوار، وكذلك العديد من المراكز والمؤسسات المدنية العامة. الأغرب من ذلك أن تحاط المنشآت الداخلية ضمن تلك المشاريع بأسوار داخلية تعزلها عن الخدمات الأخرى وكأنها حصون منيعة تحتاج إلى اجتيازها في كل مره تدخل فيها. نطلق على هذه المناطق أحيانا مصطلح أحياء أو مشاريع نموذجية للتأكيد على أنها صممت بنسق تشريعي وإجرائي وتنفيذي مختلف تماما عن محيطها الحضري؛ وكأن ما حولها لا يرقى أن يكون نموذجيا.
الإشكالية في هذا الفكر تتمثل في تركيزنا نحو المنتج العمراني المتفرد وكأنه نموذج معماري بغض النظر عن السياق المكاني والنسيج الحضري، وهو ما يمكن أن يساهم في توليد مشاريع تسمى «نموذجية» ولكنها غير قادرة على التفاعل مع المدينة، فكل نموذج يعمل في نظام أو كيان له خصائصه المتفرد بها. تخلق هذه الأسوار حدودا فاصلة، وتؤدي إلى تداخل غير منظم للنسيج الحضري، الأمر الذي يثقل على عمليات التنسيق وإدارة المرافق والخدمات بشكل فعال. وعلاوة على ذلك، تزيد هذه الأسوار من تكاليف البناء وتحد من فرص التفاعل الاجتماعي وتؤثر سلبا على المشهد البصري.
إن مبادئ الاستدامة تؤكد على التفاعل الوظيفي بين الخدمات وأن يترجم العنصر المادي في المدينة العوامل الاقتصادية، والبيئية، والاجتماعية. وفقا لذلك، فإن تحقيق عنصر الأمان لا يقتضي بالضرورة عزل المكان عن المحيط العمراني، حيث يمكن الاعتماد على تصميمات مبتكرة تدمج أبعاد الأمان مع عناصر تفاعل وتواصل حضري، كالساحات المفتوحة، والحدائق، والأبواب المفتوحة بشكل يعزز التفاعل المجتمعي، ويحافظ على الترابط بين المنشأة ومحيطها الحضري. كما يمكن استغلال البيئة الطبيعية كالأشجار لعمل بوابات ومداخل بصرية دون الحاجة إلى استخدام أسوار خرسانية شاهقة الارتفاع. أرى من الأهمية إعادة النظر في سياسة استخدام الأسوار حول المنشآت العامة والمشاريع الكبرى، فالجانب الأمني يمكن توفيره لا سيما مع التقدم في تقنيات الرصد والرقابة دون الحاجة إلى بناء أسوار شاهقة الارتفاع.
وختاما، فإن تقليل الاعتماد على الأسوار يعد خطوة هامة نحو مدن أكثر تفاعلا، وتكاملا، تتحول معه العناصر الوظيفية والخدمات العامة من حواجز تفصل بين المجتمع والمدينة إلى وسائل تفاعل وتنمية مجتمعية حيوية.