من الطاعة إلى الفهم: رحلة تربية بين جيلين
الخميس - 14 أغسطس 2025
Thu - 14 Aug 2025
في بيتنا القديم، كنا نُربى على «نفذ أولا ثم اسأل لاحقا، أو لا تسأل أبدا!»، وكانت كلمة «ليش؟» تعتبر تمردا، بل في بعض البيوت ربما عوقبت قبل أن تكمل سؤالك البريء، لم نكن نتجرأ أن نقول لأبينا أو أمنا: «اشرحا لنا السبب!»، لأن الأمر نفسه كان واضحا عندهما، الطاعة فوق كل شيء، والاحترام يقاس بمدى انصياعك للأوامر.
أما اليوم، فقد تبدل الزمان، وتبدل معه فهم الأطفال للحياة، طفل اليوم لا ينفذ لأنه خائف، بل ينفذ لأنه اقتنع، لن يقوم بما تطلبه إلا إذا عرف «ليش؟» وماذا بعد؟ وماذا سيحدث لو لم أفعل؟ هو جيل يرى العالم من شاشة صغيرة بحجم كفه، ويطرح أسئلة أوسع من عمره، ولا يرضى بجواب معلب من نوع «كذا وخلاص».
قد يرى بعض الآباء في ذلك قلة أدب، أو تفلتا، أو استهتارا بالتربية، لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير، المسألة ليست طاعة أو عنادا، بل اختلاف جذري في أدوات الفهم، وفي تعريف الاحترام نفسه، نحن كنا نصنف الاحترام على أنه الصمت والسكوت، وهم يرونه في الإنصات والتفاهم، نحن كنا نحسن الأدب بأن نخفض رؤوسنا، وهم يحسنونه حين يرفعون رؤوسهم ويسألون ويبحثون.
أطفال اليوم لا يعيشون في غرف مغلقة، بل في عوالم مفتوحة على مصراعيها، هم لا يسمعون صوتك فقط، بل يسمعون آلاف الأصوات، ولا يرون تصرفك وحدك، بل يرون كيف يتصرف الناس في كل مكان، فإن لم تشرح، فسيفعل غيرك، وإن لم تجب، ستجيب الشاشات من خلف ظهرك.
ولأن الآباء ظلوا يربون على الطريقة القديمة، والأبناء تطوروا على نمط جديد، بدأت المسافة تتسع، وصارت الجملة التي تتردد في المجالس «ما نعرف نربيهم مثل أول!»، بينما الحقيقة أن الجيل لا يحتاج إلى التربية نفسها، بل إلى الحب نفسه، ولكن بأسلوب مختلف.
وقد قيل «لا تربوا أبناءكم كما ربيتم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم». جملة واحدة تلخص أزمة أجيال كاملة.
فهم الأبناء لا يعني التنازل عن القيم، ولا الخضوع لرغباتهم، بل هو فن من فنون التربية الذكية، لا بأس أن تشرح لطفلك لماذا لا ينبغي له أن يضرب أخاه، ولماذا يجب أن ينام مبكرا، ولماذا نحترم كبار السن والنساء أكثر من غيرهم، بل الحقيقة أنك إن شرحت له الأسباب، رسخت في داخله القناعة، وربيت فيه العقل والفطنة، لا فقط السمع والطاعة.
ليس المهم أن يطيعك طفلك أمامك، بل أن يفكر كما كنت تتمنى لو غبت عنه، التربية لا تقاس بكم مرة قال «حاضر»، بل كم مرة اختار «الصح» وهو وحده، أن تزرع فيه البوصلة، خير من أن تعلق في رقبته صافرة.
جيل اليوم لا يحتاج إلى قسوة، بل إلى من يفهم عقله ويتعامل مع أسئلته بصدق لا بسخرية، لا يحتاج إلى أن نخاف عليه، بل إلى أن نرافقه، التربية اليوم ليست صراخا وأوامر، بل استماع واحتواء ومهارة في إدارة العواطف.
وفي الختام، الذي يربي أبناء اليوم كما رُبي هو بالأمس، كمن يستخدم خريطة قديمة لمدينة تغيرت شوارعها وإشاراتها وأبوابها، سيظل يضيع، ويضيع معه من يحب، ولعل أول خطوة في التربية اليوم أن نتواضع لنسأل: كيف أفهم ابني؟ بدل أن نصرخ في وجهه: ليه ما تفهمني؟