الفن العربي يتجاهل مأساة تجويع غزة
الثلاثاء - 12 أغسطس 2025
Tue - 12 Aug 2025
من يتابع أحوال العالم العربي المعقدة والمخجلة والمذلة، ويرقب مواقف الأدب والفن العربي، يجدها أدنى درجات التوقع.
القصف اليومي وتجويع شعب غزة، واقتناص أطفال القدور يحاولون خطف لقمة قبل أن يحشرهم مقذوف، أو تنهال عليهم مصائب الدهر، مدعومة بظلم كل سلطة أرضية غاشمة تحت سماء لا ترحم، وصدمات تصيب العقول المبدعة بالتكلس، والألسن المعبرة بالخرس، والتاريخ المنزاح بتعتيم ونسيان متعمد، وأعذار ركيكة، تشيع مواقف العمالة والضعف، والعجز عن إسناد هياكل صرعى الجوع، والخوف، والأمراض، وتجرع غازات المقذوفات، تحثهم على النزوح، حول جدران لا يؤتمن صمودها، يتخاطفون بقايا دقيق ملوث تساقط من السماء موتا أصفر.
فتشت عن أعمال فنانين عرب، فلم أجد من تفاعل، ولا من غضب، ولا من استصرخ الهمم لوقف الحرب الغاشمة، وإيصال المساعدات لأرض التعاسة والضيق والجوع القاتل.
وتذكرت حادثة رحيل الفنان العبقري زياد الرحباني، بعد أن صنع الفرق، وخلق الروابط بين معاني الفنون وإنسانيتها، وعظمتها، وحقائق تمكينها على الأرض، لا ليزداد فنه لمعة ورونقا، بل ليجد الإنسان فيها همومه، فكتب ولحن وجسد وغنى رائعته: «أنا مش كافر»!
تلك الأغنية الأقرب لملحمة نقد للبشرية وغطرستها، تحفة تعزف على أوتار الصدق، وتبرز ما في قلب الإنسان المستضعف المحبط بنوائب الدهر، لا أحد يقدر ذاته، ولا ينظر لبؤسه، ولا تسمع الدنيا صوت استغاثته في محيطه الضيق، فاقدا الأمل في الإنسانية ومنظماتها العالمية، التي تتشبث بزيف معاني الرحمة والحقوق، في قضايا الإنسان المظلوم والأقليات، وتعجز عن مساعدة أهل غزة الجوعى المرضى والجرحى والمهدرة حقوقهم بقوة سلطان أمريكا، وخبث إسرائيل، وحماس، لا يرحم ولا يترك الرحمة تنزل.
زياد، لم يكن يجد حقه بين زيف من كتبوا وغنوا وعزفوا ومثلوا، فلم يأبه، وهو من ولد على فراش الرحابنة، ورضع فن فيروز، ثم استقل، وتمرد على لمعتهم، وأصولهم، وشق بطفولته دربا شائكا من محاولات البحث عن حقائق الأدب والفن، يداعبها، ويزرعها في طريق البشر، دون أن يطلب الثمن.
«أنا مش كافر بس الجوع كافر
أنا مش كافر بس المرض كافر
أنا مش كافر بس الفقر كافر
والذلّ كافر
أنا مش كافر
لكن شو بعملك إذا اجتمعوا فيّي كل الإشيا الكافرين، آمين»
كلمات كأنها كتبت على لسان إنسان غزة، ضمنها زياد في مسرحية «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» عام 1994، لتكون صرخة إنسانية تتردد في ضمير الفن.
مسرحية سوداء ساخرة ورؤية فلسفية شفافة، منطوقها يرفض اختزال الإنسان في ظرف وضغوطات وعنصرية أو معتقد يحط من شأنه ويزيد قيوده ويذبحه دون قيمة لصرخته.
استخدم زياد في أيقونته مفردات الشارع اليومية دون أي رتوش، ليكشف عن التناقضات التي يعيشها المواطن المظلوم، ويطرح سؤالا وجوديا عن الكفر الحقيقي: هل هو في العقيدة أم في تكريس الجوع والظلم والأمراض والذل؟
وهكذا أجد أننا نفتقد كنوز المواقف الفنية التي تضيء ظلمات القهر وتمنح الإنسان صوتا حين تخفت الأصوات المهتزة في مثل كارثة مجاعات غزة الحالية، ونستجلب مثل هذا العمل، الدائم بمصداقية الكلمة والفكر والفن الإنساني والروح.