نوف علي الزامل

ظرف رسالة "إلى والدي العزيز"

الثلاثاء - 07 يناير 2025

Tue - 07 Jan 2025

أيها الماضي الجميل، هل تتذكر صوت تمتمتي في قراءة رسائلي التي لا أبوح بها، أتتذكر استهوائي في طيّ الأوراق وعمل مظاريف خاصة ومميزة، أو كيف كُنت أشرع في تشكيل تلك الرسائل وأتحسس الورق برفق من على مكتب والدي الذي يضج بالكتب والصُحف والأوراق المُكدسة والمتناثرة هنا وهناك.

حين كنت أسترق النظرات إليه، وآخذ منه الأوراق خلسة، ألتقطها بين يديّ. كانت تلك الأوراق تُصدر صوت حشرجة الورق، صوتا يترنم في أذني أهوى ألحانه، لحن عصيٌ يصعب تلحينه. تلك الأوراق القديمة جافة الملمس، بلونها العاجي المائل إلى الصفرة، تحمل في ثناياها عبج الدهر.

أوراق تتنفس نفحة عتيقة ترتدي جذرا وتاريخا عريقا برائحة الحبر الذي خطّ به والدي أفكاره على مر السنين. رائحة تسافر بي إلى البارحة، حيث كان والدي يكرس ساعاته الطوال غارقا في عزلته، يطوي نفسه بين سطورٍ من الحبر الأسود، مطوّعا قلمه في هدأة وسكون يده التي تخط على الورق سطورا خالدة.

كان يراودني ذاك الشعور، وكأنني أدخل عالمه الخاص، أختلس منه اللحظة، أهيمُ في إرثه، الذي صنعه بيده، وأجترح منه كلمة تتبع كلمة، وفكرة تجرّ فكرة، كما لو أنني جزءٌ من ذاك الإرث، ذاك الزمان الذي كان يستوطنه والدي.

أتناول تلك الأوراق بيدين مرتجفتين، وكأني بي أحمل طفلا شاخ وهرم من هردبة أحلامٍ وأوجاعٍ مضت، لم تُمحَ أبدا من الذاكرة. أضعها على طاولتي في الزاوية القصية المفضلة من غرفتي بالقرب من النافذة. تارة كان يعكس عليها نور القمر، وتارات أخرى كانت تنشد فيها تغريد البلابل وهديل الحمائم. سكينة خاصة تجعل العالم كله يقف في تلك اللحظة التي كنت أحاول جاهدة إيفاد مشاعري إلى كلمات.

لتلك اللحظات طقوس خاصة. بدأت من انتقاء القلم الذي سأكتب به رسالتي، بتأمل الأقلام المتناثرة، والبحث عن الأقرب إليّ، كأني بي أبحث عن قريني. ذاك القلم، تلامسه صوابعي، للشروب في كتابة الحرف الأول، الكلمة الأولى. وأخيرا بحركات يدي الانسيابية على الورقة، حين تنهالُ منها الكلمات بلا هوادة، تُحلق بلا قيود، تتبعثر دون مجهود.

أسدل الستار على سطوري الأخيرة، أُطوي الورقة بحذر وحنو وأضعها في المظروف وأغلقه برفق، كأني بي أغلق نافذة عالمي الخاص. ثم أختار الطابع البريدي ذاك المربع الصغير التائه بين الوعود والرغبات، نقطة نهاية السطر.

أختتم رحلتي على ظهر المظروف، بخطِ اسم "إلى والدي العزيز"، ذلك الاسم الذي يمثل نهاية الرسالة، لكنه بالنسبة لي هو بداية في كل مرة كنت أمسك فيها القلم واكتب.

NofAliAlzamil@