يوسف الحمادي

وسائل الإعلام.. وثمن مواجهة التضليل

الثلاثاء - 24 ديسمبر 2024

Tue - 24 Dec 2024

يتفق الكثيرون على أن امتلاك المؤسسات الإعلامية والسيطرة عليها، أصبح متاحا لمن يملكون المال، والذين بدورهم يعملون على طرح أفكار وتوجهات تدعمها سياسات ومعايير، هم من يصنعها، سواء لتعزيز الربحية أو لتنفيذ أجندات سياسية أو فكرية تستهدف نشر أفكار محددة، من خلال التضليل الإعلامي عبر الكذب، والتزييف، والتلفيق، لإنتاج وعي سلبي لا يتوافق مع الحقائق على أرض الواقع، وللتأثير على عقول العامة، ممن يشكلون السواد الأعظم في منصات التواصل الاجتماعي، التي تُعد اليوم الأكثر شهرة والأكثر متابعة.

ويبدو أن حرب التضليل الإعلامي بين أرباب وسائل الإعلام، أخذت منحنى غير مسبوق، وبدأت تنتشر في العلن بشكل صارخ، بعد أن استحوذ إيلون ماسك على منصة إكس، وأحدث تحولا هائلا في سياساتها؛ وهو ما فتح مجالات رحبة للتضليل الإعلامي بدعوى تعزيز حرية التعبير ومشاركة أوسع للمشتركين، ما أغضب عدد من المؤسسات الإعلامية في عدد من دول العالم، خصوصا ذات التوجهات السياسية المغايرة لتوجهات إيلون ماسك، المعروف بدعمه لليمين المتطرف.

وفي الوقت الذي تتنوع فيه أساليب التضليل لدى وسائل الإعلام، فإن تعددها في منصات التواصل الاجتماعي أكبر، بطرق أكثر نجاعة، ما جعل عدد من المؤسسات الإعلامية الغربية، تشن حربها على منصة إكس تحديدا، حتى وصل الأمر إلى انسحاب مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية من المنصّة، لا سيما بعد أن حول ماسك منصته إلى منبر لنشر أفكار اليمين المتطرف، وأداة دعاية قوية للرئيس الأمريكي دونالد ترمب، قبل فوزه في الانتخابات.

ففي أوروبا انسحبت صحيفة "الغارديان" البريطانية من إكس، وبقي حسابها الذي يتابعه أكثر من 10 ملايين متابع، خامدا دون حراك منذ نحو شهر، تلتها صحيفة "فون غوارديا" الإسبانية، و"داكنز نيهتر" السويدية، ثم الصحيفة الأسبوعية الفرنسية "ويست فرنس"، إضافة إلى المجموعة الإعلامية الفرنسية "سود ويست"، التي قررت الانسحاب، وأصدرت بعد ذلك بيانا وضحت فيه أن قرارها أتى لعدة أسباب، من بينها غياب الإشراف والمراقبة، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن.

كما قرر عدد من وسائل الإعلام الفرنسية إلغاء حساباتها في إكس، فيما تدرس أخرى هذا القرار احتجاجا على التعديلات التي لحقت بها، مثل صحيفتي "لو موند" و "لاكروا" الفرنسيتين. في المقابل ما زالت تدافع منصة إكس عن موقفها، على اعتبار أن ما ينالها من اتهامات، لا تعدو كونها حملات تهدف إلى إسكات الأصوات المعارضة وضرب نجاح المنصة، خصوصا بعد تفوقها على وسائل الإعلام التقليدية في أعداد الجماهير.

لكن دفاع منصة إكس يظل ضعيفا، بعد أن تسببت التعديلات الأخيرة في عدم القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي والعكس، في ظل ما تتيحه المنصة للمشتركين من أساليب، مثل إمكانية الاطلاع على المنشورات التي تحقق انتشارا واسعا حتى لو لم تكن صحيحة، وانتشار حسابات وهمية تحمل الشارة الذهبية لكنها تنتحل صفة مصادر موثوقة، وهو ما يثير قلق الجميع ليس فقط وسائل الإعلام بل حتى المنظمات العالمية والدول، لا سيما أن المنصة أصبحت تعد اليوم وجهة رئيسية للأخبار لملايين المستخدمين، وتسامحها - أو تغافلها إن جاز التعبير - عن إجراءات المصداقية والمسائلة يعزز من التضليل الإعلامي.

ومهما وصل الحال من تضليل إعلامي لدى إكس، فإن المؤسسات الإعلامية التي أخذت موقفا حادا بانسحابها من المنصة ليست بأفضل حال منها، وينطبق عليها قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى "كحامل لثياب الناس يغسلها.. وثوبه غارق في الرجس والنجس"، فهي تميل أصلا في طرحها لتحزباتها السياسية، وطريقتها في الانسحاب أضعفت موقفها، إذا أخذنا في الاعتبار أننا نعيش في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، وطريق التأثير أصبح يمر من خلالها.

أتصور أن من الأولى بوسائل الإعلام تلك أن تواجه هذا التحدي، لكن هناك ثمنا ربما لا تريد أن تدفعه، وهو اتباع استراتيجيات لتحقيق التوازن بين التصدي للتضليل، والمحافظة على التأثير، من خلال تعزيز المصداقية والشفافية بنشر الأخبار المدعومة بالأدلة، وإظهار عملية التحقق عبر مشاركة متابعيها في خطوات التحقق من صحة الأخبار، والتفاعل مع الجمهور عبر الردود والتوضيحات، إضافة إلى تخصيص حملات مبتكرة لتوعية العامة حول كيفية التحقق من الأخبار، إلى جانب نشر محتوى يسلط الضوء على كيفية تأثير سياسات الربحية على انتشار الأخبار المضللة.

ومن الحلول التي يمكن الأخذ بها، تعاون المؤسسات الإعلامية مع بعضها بعضا لإنشاء مرصد ضد التضليل الإعلامي، كالذي تضع المفوضية الأوروبية اللمسات الأخيرة عليه هذه الأيام، وهو ما أسمته "الدرع ضد التضليل الإعلامي"، ويضم حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الالكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، لكن مثل هذا الحل لا أعتقد أنه يناسب المؤسسات الإعلامية تلك، لأنه سيكون كالسيف المسلط عليها أيضا، فلابد أن تكون هي أول من يخضع له.

إن الحد شعرة بين المصداقية وعكسها، وترك الحبل على الغارب ينخر في فكرة حرية التعبير التي تفترض قسمتها على اثنين، مرسل المعلومة، والمتلقي، وما لم يكن هناك إجراءات واضحة ومعايير لازمة للمحافظة على تلك المساحة، من حيث المصداقية والموضوعية والمهنية، ستتبخر فكرة حرية الإعلام، والسقف العالي الذي يتبناه الغرب لوسائل الإعلام التقليدية والمنصات الحديثة.