الصراع على سردية الذاكرة
السبت - 07 ديسمبر 2024
Sat - 07 Dec 2024
سبق وأن أشرت إلى ما كتبه الرئيس الفرنسي ماكرون للمؤرّخ بنجامان ستورا حال تكليفه بمهمّة توثيق ذاكرة الاحتلال الفرنسي للجزائر قائلا "من المهم أن يُعرف تاريخ حرب الجزائر ويُنظر إليه بشكل واضح، الأمر يتعلق براحة وصفاء الذين أضرت بهم، وبمنح شبابنا إمكانية الخروج من النزاعات المتعلقة بالذاكرة". وقد أقر الرئيس الفرنسي ونظيره الجزائري عبدالمجيد تبون إنشاء لجنة مشتركة من المؤرخين لكتابة سردية تاريخية متفق عليها، على أن ذلك قد واجهته عوائق منهجية وأخرى ديبلوماسية.
إذن هي السردية التي تمثل أهم قيمة لوجستية في الصراع بين الذات والآخر، والذات هنا هم العرب والشعوب المسلمة، والآخر هو الغرب الإمبريالي وربيتهم إسرائيل، وهو ما أدركه الغرب الإمبريالي والإسرائيليون منذ فترة مبكرة، وأسسوا لصناعة سرديتهم أجهزة متخصصة، ومراكز علمية دقيقة، ولم يكتف الإسرائيليون بتوجيه الذهن في الداخل الإسرائيلي وفق ما يريدون، بل اهتموا بترويج سرديتهم عالميا عبر مختلف السياقات الصحافية والتعليمية والسينمائية، وغيرها.
تقوم السردية الإسرائيلية على تعميق فكرة أنهم الأصل عرقا، وهم الأساس تاريخا، وغيرهم من العرب لا وجود لهم تاريخا، ولا أساس لهم قانونا، وبالتالي فالحق التاريخي لا يتلاشى، وهم أحق تاريخيا بالوجود في المنطقة وحكمها واستيطانها، وعلى العرب أن يغادروا أرض مملكة إسرائيل التاريخية، أو يقبلوا بالعبودية.
هكذا هي السردية في قناعتهم، وبذلك الاقصاء المؤدي للتوحش يتم تعزيزها في أذهان أطفالهم، بل ويتم الترويج لها غربيا، على أن الأدهى والأمر، بل والأكثر وجعا وحزنا، أن يتم تمريرها عربيا، وأن تجد هذه السردية الكاذبة من يُروج لها بجهل في محيط أوطاننا العربية، وتلك هي أم المصائب.
أشير إلى أني قد سبق وكتبت مقالات متعددة أحذر فيها من خطورة ما نعيشه من استلاب للذاكرة في ظل تقصير جمهرة المؤرخين ومؤسساتهم العلمية، وفي ظل استمرار العابثين في الثرثرة بما لا يُدركون، وأجد مناسبا إعادة ما نشرته سابقا في الـ9 من سبتمبر 2023م على هذه الصحيفة بعنوان "المروية التاريخية وانتهاك المدلسين"، حيث حذرت من أولئك المدسوسين بيننا، الذين يَتَسَمَّون بأسمائنا، ويكتبون بلغتنا، ويتحدثون بلهجتنا، من أجل تمرير معلومات تحقق هدفين رئيسيين: ثانيهما، تمرير المعلومة التوراتية في ثنايا حديثهم باعتبارها المروية التاريخية الصحيحة، وجعلها منصة يتم الاعتماد عليها لفهم الواقع التاريخي؛ أما أولاهما، فيكمن في زعزعة وعينا بموروثنا التاريخي، والتشكيك بكل معارفنا القائمة، حتى لا تظل لنا منصة نستند عليها؛ وهو المراد عمله خدمة للمشروع الصهيوني الكبير.
ابتدأت الحكاية مع كتاب "التوراة جاءت من جزيرة العرب" الصادر عام 1985م لكمال الصليبي، الذي ادعى فيه مرجعية اليهود لجنوب غرب الجزيرة العربية، ابتداء من منطقة الباحة وحتى منطقة نجران في الجنوب الغربي للمملكة العربية السعودية، مبتدعا منهجا جديدا لا أساس له وهو التشابه اللفظي بين أسماء الأماكن الواردة في التوراة ومواضعها في المواقع الجغرافية التي نظر فيها، وهو منهج غير علمي، كما قام على اعتساف الألفاظ ليخلق منها حالة التشابه والتطابق التي يريد؛ وفي كل فقد انبرى باحثون للرد عليه، لكن أبحاثهم لم تلق اهتماما إعلاميا لغاية في نفس يعقوب.
ثم جاء كتاب أحمد داوود المسمى "العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود" الصادر عام 1991م ليؤسس لفكرة مرجعية بني إسرائيل العرقية للعرب، إذ هم أبناء يعقوب وأحفاد إبراهيم الجد الجامع لذرية إسحاق، والذي منه إسماعيل. مع تمريره لفكرة أن بني إسرائيل الذين هم أبناء يعقوب غير اليهود، وأن يهود اليوم ليسوا من ذرية الأسباط بأي حال من الأحوال، وإنما هم منتمون للديانة فقط. والعجيب أنه تناسى بأن الديانة اليهودية مغلقة ويتم اعتناقها بالوراثة، وبالتالي فليست ديانة تبشيرية أسوة بالمسيحية والإسلام. وعليه فليس لتفريقه بين بني إسرائيل وذريتهم وجه مقبول تاريخي.
ومع تسيد القنوات الإعلامية وانتشار مقاطع اليوتيوب ظهر علينا فاضل الربيعي ليكمل ترهات من سبقه، وليطرح عددا منها مما لا يقبله عاقل عارف، وللأسف فقد تلقفها الرويبضة وساروا بها وكأنها حقيقة متفق عليها، ليصبح فاضل الربيعي نجم الفضائيات بأقاويله المبثوثة التي يقف منها العارف حيرانا متعجبا.
فمثلا يقول في أحد لقاءاته: إنه لا يوجد أي أثر يؤكد وجود قريش في الحجاز، لكن هناك عشرات الأدلة تؤكد وجودها في حضرموت؛ ثم ومن باب ذر الرماد في العيون يعمد إلى الاستشهاد بكتاب المؤرخ جواد علي "المفصل في تاريخ العرب" الذي ذكر اسم قريش في حضرموت؛ في الوقت الذي يعلم العارفون بأن اسم قريش في مكة قد جاء من معناه اللغوي وهو الجمع والكسب، فيقال تقرَّش القوم: أي تجمَّعوا، وفلان يتقرَّش المال: أي يجمعه؛ وأن هذا الاسم لم يكن لأحد من بني إسماعيل في مكة أو غيرهم، وأنه لقب ظهر في عهد قصي بن كلاب لأنه جمع بني قومه على رحلتي الشتاء والصيف فسمي بالمُجمع، ويقال إن النظر بن كنانة أو حفيده فهر بن مالك بن النظر هو أول من تلقب بقريش. وبالتالي فلا علاقة نسبا لقريش مكة بقريش حضرموت أو غيرها من القرشيات المبثوثة على امتداد جبال السراة.
ولم يتوقف الأمر عند هؤلاء ليأتينا محمد منصور بكتابه "التوراة الحجازية تاريخ الجزيرة المكنوز" الذي أسس لفكرة أن مكة المكرمة والمدينة المنورة هي أرض توراتية سكنها إبراهيم وذريته من ابنه إسحاق ويعقوب تحديدا، وأنكر وجود إسماعيل بن إبراهيم، مشيرا إلى أنهم في الأساس ذرية العيص بن إسحاق الملقب بعدنان. ثم قوله إن مدينة دمشق هي نجران، وإن نوحا وطوفانه كان في أرض الحجاز، إلى آخر ما ساقه الكتاب من ترهات قصد الإسرائيليون جس نبضنا بها، ليعرفوا أين وصلنا من التسطيح، وللأسف فقد جرى مجراهم بعض قومنا بجهل، وهي الكارثة الأكبر التي تستوجب تدخلا رسميا لوقف الاختراق الصهيوني الحاصل.
إنها صرخة مدوية أرجو أن تصل لسمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، فاللعب بالتاريخ وتشويه الذاكرة أشد وطأة وأنكى أثرا على أي مجتمع حاضرا ومستقبلا.
إذن هي السردية التي تمثل أهم قيمة لوجستية في الصراع بين الذات والآخر، والذات هنا هم العرب والشعوب المسلمة، والآخر هو الغرب الإمبريالي وربيتهم إسرائيل، وهو ما أدركه الغرب الإمبريالي والإسرائيليون منذ فترة مبكرة، وأسسوا لصناعة سرديتهم أجهزة متخصصة، ومراكز علمية دقيقة، ولم يكتف الإسرائيليون بتوجيه الذهن في الداخل الإسرائيلي وفق ما يريدون، بل اهتموا بترويج سرديتهم عالميا عبر مختلف السياقات الصحافية والتعليمية والسينمائية، وغيرها.
تقوم السردية الإسرائيلية على تعميق فكرة أنهم الأصل عرقا، وهم الأساس تاريخا، وغيرهم من العرب لا وجود لهم تاريخا، ولا أساس لهم قانونا، وبالتالي فالحق التاريخي لا يتلاشى، وهم أحق تاريخيا بالوجود في المنطقة وحكمها واستيطانها، وعلى العرب أن يغادروا أرض مملكة إسرائيل التاريخية، أو يقبلوا بالعبودية.
هكذا هي السردية في قناعتهم، وبذلك الاقصاء المؤدي للتوحش يتم تعزيزها في أذهان أطفالهم، بل ويتم الترويج لها غربيا، على أن الأدهى والأمر، بل والأكثر وجعا وحزنا، أن يتم تمريرها عربيا، وأن تجد هذه السردية الكاذبة من يُروج لها بجهل في محيط أوطاننا العربية، وتلك هي أم المصائب.
أشير إلى أني قد سبق وكتبت مقالات متعددة أحذر فيها من خطورة ما نعيشه من استلاب للذاكرة في ظل تقصير جمهرة المؤرخين ومؤسساتهم العلمية، وفي ظل استمرار العابثين في الثرثرة بما لا يُدركون، وأجد مناسبا إعادة ما نشرته سابقا في الـ9 من سبتمبر 2023م على هذه الصحيفة بعنوان "المروية التاريخية وانتهاك المدلسين"، حيث حذرت من أولئك المدسوسين بيننا، الذين يَتَسَمَّون بأسمائنا، ويكتبون بلغتنا، ويتحدثون بلهجتنا، من أجل تمرير معلومات تحقق هدفين رئيسيين: ثانيهما، تمرير المعلومة التوراتية في ثنايا حديثهم باعتبارها المروية التاريخية الصحيحة، وجعلها منصة يتم الاعتماد عليها لفهم الواقع التاريخي؛ أما أولاهما، فيكمن في زعزعة وعينا بموروثنا التاريخي، والتشكيك بكل معارفنا القائمة، حتى لا تظل لنا منصة نستند عليها؛ وهو المراد عمله خدمة للمشروع الصهيوني الكبير.
ابتدأت الحكاية مع كتاب "التوراة جاءت من جزيرة العرب" الصادر عام 1985م لكمال الصليبي، الذي ادعى فيه مرجعية اليهود لجنوب غرب الجزيرة العربية، ابتداء من منطقة الباحة وحتى منطقة نجران في الجنوب الغربي للمملكة العربية السعودية، مبتدعا منهجا جديدا لا أساس له وهو التشابه اللفظي بين أسماء الأماكن الواردة في التوراة ومواضعها في المواقع الجغرافية التي نظر فيها، وهو منهج غير علمي، كما قام على اعتساف الألفاظ ليخلق منها حالة التشابه والتطابق التي يريد؛ وفي كل فقد انبرى باحثون للرد عليه، لكن أبحاثهم لم تلق اهتماما إعلاميا لغاية في نفس يعقوب.
ثم جاء كتاب أحمد داوود المسمى "العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود" الصادر عام 1991م ليؤسس لفكرة مرجعية بني إسرائيل العرقية للعرب، إذ هم أبناء يعقوب وأحفاد إبراهيم الجد الجامع لذرية إسحاق، والذي منه إسماعيل. مع تمريره لفكرة أن بني إسرائيل الذين هم أبناء يعقوب غير اليهود، وأن يهود اليوم ليسوا من ذرية الأسباط بأي حال من الأحوال، وإنما هم منتمون للديانة فقط. والعجيب أنه تناسى بأن الديانة اليهودية مغلقة ويتم اعتناقها بالوراثة، وبالتالي فليست ديانة تبشيرية أسوة بالمسيحية والإسلام. وعليه فليس لتفريقه بين بني إسرائيل وذريتهم وجه مقبول تاريخي.
ومع تسيد القنوات الإعلامية وانتشار مقاطع اليوتيوب ظهر علينا فاضل الربيعي ليكمل ترهات من سبقه، وليطرح عددا منها مما لا يقبله عاقل عارف، وللأسف فقد تلقفها الرويبضة وساروا بها وكأنها حقيقة متفق عليها، ليصبح فاضل الربيعي نجم الفضائيات بأقاويله المبثوثة التي يقف منها العارف حيرانا متعجبا.
فمثلا يقول في أحد لقاءاته: إنه لا يوجد أي أثر يؤكد وجود قريش في الحجاز، لكن هناك عشرات الأدلة تؤكد وجودها في حضرموت؛ ثم ومن باب ذر الرماد في العيون يعمد إلى الاستشهاد بكتاب المؤرخ جواد علي "المفصل في تاريخ العرب" الذي ذكر اسم قريش في حضرموت؛ في الوقت الذي يعلم العارفون بأن اسم قريش في مكة قد جاء من معناه اللغوي وهو الجمع والكسب، فيقال تقرَّش القوم: أي تجمَّعوا، وفلان يتقرَّش المال: أي يجمعه؛ وأن هذا الاسم لم يكن لأحد من بني إسماعيل في مكة أو غيرهم، وأنه لقب ظهر في عهد قصي بن كلاب لأنه جمع بني قومه على رحلتي الشتاء والصيف فسمي بالمُجمع، ويقال إن النظر بن كنانة أو حفيده فهر بن مالك بن النظر هو أول من تلقب بقريش. وبالتالي فلا علاقة نسبا لقريش مكة بقريش حضرموت أو غيرها من القرشيات المبثوثة على امتداد جبال السراة.
ولم يتوقف الأمر عند هؤلاء ليأتينا محمد منصور بكتابه "التوراة الحجازية تاريخ الجزيرة المكنوز" الذي أسس لفكرة أن مكة المكرمة والمدينة المنورة هي أرض توراتية سكنها إبراهيم وذريته من ابنه إسحاق ويعقوب تحديدا، وأنكر وجود إسماعيل بن إبراهيم، مشيرا إلى أنهم في الأساس ذرية العيص بن إسحاق الملقب بعدنان. ثم قوله إن مدينة دمشق هي نجران، وإن نوحا وطوفانه كان في أرض الحجاز، إلى آخر ما ساقه الكتاب من ترهات قصد الإسرائيليون جس نبضنا بها، ليعرفوا أين وصلنا من التسطيح، وللأسف فقد جرى مجراهم بعض قومنا بجهل، وهي الكارثة الأكبر التي تستوجب تدخلا رسميا لوقف الاختراق الصهيوني الحاصل.
إنها صرخة مدوية أرجو أن تصل لسمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، فاللعب بالتاريخ وتشويه الذاكرة أشد وطأة وأنكى أثرا على أي مجتمع حاضرا ومستقبلا.