بسمة السيوفي

القطاع غير الربحي المظلوم

الأربعاء - 30 أكتوبر 2024

Wed - 30 Oct 2024

في السنوات الأخيرة شهد القطاع غير الربحي في السعودية نقلة نوعية غيرت مجرى تطوره ليصبح ركيزة أساسية في التنمية الوطنية، جنبا إلى جنب مع القطاعين الحكومي والخاص... وفي ظل رؤية المملكة 2030، ومساندة نظام الجمعيات الأهلية، وإنشاء المركز الوطني لتنمية القطاع، أتيح المجال للمؤسسات الخيرية والمبادرات الاجتماعية للمساهمة بعمق أكبر في تحسين حياة الأفراد وتعزيز النسيج الاجتماعي.

الحديث عن القطاع غير الربحي لم يعد مجرد طرح للأدوار التقليدية التي يقوم بها، بل هو بحث عن الإمكانات الحقيقية لتوسيع أثرها؛ فما لي أنا ومال الحديث عن هذا القطاع؟ ولماذا يصبح الحديث عن هذا القطاع واجبا وطنيا، ومسؤولية تتعلق بوعي كل مواطن؟

ما دعا لمناقشة الموضوع هو انعقاد مؤتمر "مستقبل القطاع غير الربحي" الأسبوع الماضي في الرياض، حيث ركز على تعزيز التعاون بين القطاعين الحكومي والخاص، وضرورة الشفافية والمساءلة لتعزيز الثقة بين المتبرعين والمنظمات.

كما شجع المؤتمر على التحول الرقمي وتطوير مهارات العاملين، وابتكار نماذج تمويل مستدامة لرفع الكفاءة، وتبني أساليب تقييم فعالة لقياس الأثر الاجتماعي.

لم يعد القطاع غير الربحي (NGO’s) يقتصر على أدوار الإحسان التقليدي، بل تحول إلى قوة تنموية تدعم المجتمع في قضايا جوهرية كالفقر والتعليم والرعاية الصحية.

وبات شريكا فعالا للجهود الحكومية، يعزز تماسك المجتمع ويؤثر مباشرة في تحسين حياة الأفراد... فعلى الصعيد العالمي، يشهد القطاع غير الربحي نموا كبيرا، حيث تجاوزت التبرعات السنوية 557 مليار دولار في الولايات المتحدة عام 2023، مدعومة بارتفاع تبرعات الشركات، على الرغم من تراجع تبرعات الأفراد بسبب الضغوط الاقتصادية.

وبحسب تقرير Giving USA لعام 2024، تمثل المؤسسات الخيرية والمبادرات الاجتماعية ما يقرب من 10% من الوظائف في بعض الدول المتقدمة، مما يساهم في دعم النمو المجتمعي والاقتصادي.

أما في السعودية، فقد بلغ حجم التبرعات أكثر من 5 مليارات ريال سعودي عبر منصة "إحسان" لجمع التبرعات عبر الإنترنت. ما يعكس توجها نحو تعظيم دور هذا القطاع في الاقتصاد والتنمية الاجتماعية.

السؤال المطروح هنا.. متى يكون القطاع غير الربحي ظالما لنفسه؟ وكيف يكون مظلوما في الوقت نفسه؟ يظلم القطاع نفسه عندما يعتمد بشكل كبير على تبرعات غير مستقرة، مما يجعله عرضة لتقلبات الاقتصاد، أو حين لا يستغل إمكانياته الكاملة بسبب نقص الموارد والدعم الحكومي، إلى جانب صعوبات التراخيص والإجراءات التي تعرقل تأثيره في معالجة القضايا الاجتماعية.

ومن جهة أخرى يكون القطاع مظلوما من المجتمع عندما ينخفض الوعي العام بأهمية دوره، مما يؤدي إلى نقص الدعم والتقدير ويحول دون استقطاب المتطوعين والموارد.

فمن الظلم ألا يُعترف بهذا القطاع كعنصر فعّال في التنمية المستدامة، مما يحرم المجتمع من الاستفادة من مشروعاته ومبادراته الفعالة.

يُتوقع أن تزداد مساهمة القطاع غير الربحي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 5% مقارنة بحوالي 1% حاليا، وذلك بفضل الجهود المتواصلة لتعزيز الابتكار الاجتماعي والمشاريع غير الربحية، التي تدعمها الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة.

ولتنظيم هذا النمو وتطوير القطاع، تعمل الهيئة العامة للمنشآت غير الربحية على تعزيز دوره من خلال السياسات والدعم المالي والتدريبي، ورغم إنجازاتها في تحسين بيئة العمل وزيادة الوعي، تواجه الهيئة تحديات في التمويل المستدام، وضعف التنسيق، وصعوبات قانونية وإدارية تعيق التوسع والازدهار.

أما عن المستقبل، فإن قدرة المنظمات غير الربحية على الاستفادة بشكل فعال من الابتكارات التكنولوجية ستعتمد بشكل كبير على مدى توظيف الابتكارات التكنولوجية كعامل رئيسي في تطوير القطاع وتعزيز تأثيره المجتمعي، مما يفتح آفاقا جديدة للتواصل مع المانحين.

ورغم فرص مثل جمع التبرعات عبر الإنترنت والذكاء الاصطناعي، إلا أن التمويل غير المستقر يمثل تحديا كبيرا، مما قد يعيق تحقيق الأهداف على المدى الطويل.

ومع زيادة عدد المنظمات وتنوع مجالاتها، تزداد المنافسة، ما يستدعي تطوير استراتيجيات مبتكرة للتسويق وبناء علاقات مستدامة مع المتبرعين.

ومن المتوقع أن يشهد القطاع غير الربحي نموا كبيرا في العقدين المقبلين، مدفوعا بالتوجهات العالمية نحو تعزيز المسؤولية الاجتماعية وتنامي وعي الأفراد والشركات بأهمية المساهمة الاجتماعية.

هذا التوجه يعزز التعاون بين القطاعين الحكومي والخاص، ويشجع المنظمات على التخصص في معالجة قضايا معينة لتحقيق أثر أعمق وأكثر استدامة.

بالإضافة إلى ذلك يمكن أن يؤدي الابتكار في استخدام التكنولوجيا، مثل تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي، إلى تحسين فعالية المشاريع من خلال الاستهداف الدقيق للفئات المستفيدة والتقييم المستمر للأثر الاجتماعي.

هذه التقنيات تسهم في جعل المبادرات غير الربحية أكثر كفاءة وشفافية، مما يزيد من ثقة الممولين والمجتمع ويعزز ديمومة القطاع.

في النهاية، يجب أن ندرك أن القطاع غير الربحي، رغم ما يواجهه من تحديات، لديه الإمكانيات الكافية للعب دور محوري في تشكيل مستقبل وطني أكثر إشراقا.

إذا أراد هذا القطاع أن يحقق أهدافه، فيجب عليه أن يتأقلم مع التغيرات السريعة، وأن يستفيد من الابتكارات التكنولوجية والموارد المتاحة عبر توفير منصات لتبادل المعرفة والخبرات بين المنظمات ودعم الابتكار الاجتماعي.

يجب ألا يُظلم القطاع غير الربحي من قِبل نفسه بجموده، ولا من الجهات ذات العلاقة بعدم تفعيل الدعم المطلوب له.. فالقطاع غير الربحي هو المحرك الصامت للتغيير الاجتماعي.. دون أن يكون ظالما لنفسه أو مظلوما من الآخرين.. لمجرد أنه لا ينتظر الإشادة، بل يريد صنع الفارق دون ضجيج.

smileofswords@