خضر عطاف المعيدي

ما بعد المال والوظيفة والمنصب!

الأحد - 27 أكتوبر 2024

Sun - 27 Oct 2024

"حياك من لم تكن ترجو تحيته

لولا الدراهم ما حياك إنسان."

- أبو الفتح البستي.

للمال والوظيفة والمنصب سراج وهاج يهتدي به الضال في طريقه، وهم كالنار التي استوقدها المسافر في ليلة شديدة البرودة لينعم بالدفء ليتهافت عليه المسافرون للاصطلاء بذاك الدفء وليس طلبا في جواره، وما أن تنطفئ تلك النار ويذهب دفؤها حتى ينفض كل مسافر يده عنه باحثا عن نارٍ أخرى ليصطلي بها. أجد الكثير قد خدعوا بالمال والوظيفة والمنصب ظانين "ظن السوء" بأن أغلب الناس من حولهم سند لهم في السراء والضراء وهم الركن إن خانتهم أركانُ، وهم في غيبوبة عن الواقع أشعرتهم بأن من جلب الناس من حولهم هو الحب والإخاء والمودة "سواد العيون" وليس موقعهم ومركزهم.

قيل لعلي رضي الله عنه حينما تولى الخلافة: من هم أصحابك؟ قال لا تسألني فالدنيا مقبلة علي بل اسألني إذا أدبرت...! نعم لا تقل هذا صاحبي وذاك قريبي وهؤلاء رفاقي والمنصب لا يزال يبرق بارقه ويرعد راعده وزخات سحائبه هاطلة، بل تفقدهم حينما يخفت البريق ويصمت الرعد وتقحل الأرض بالفقر أو بالتقاعد أو بالترجل عن ذلك المنصب أو تلك الوظيفة!

لتعلم صديقي المخدر بأفيون المال والمنصب والوظيفة الجديدة بأن أغلب الناس من حولك وإن أظهروا لك الحب والتهنئة والتمني لك بالسداد ومن يحيون لياليك بالمسامرة والضحك ومن يبادرون بالسؤال عنك في كل مناسبة، ومن يتسابقون لتهنئتك بالعيد والمباركة لك بيوم الجمعة ومن خصص لك رسالة باسمك في كل مناسبة، ومن يجعلون لك مكانا بصدر مجلس الضيوف في المناسبات ومن يرحبون بك بالشعر والقصيد والمديح، ومن جعلوك عند رأس الذبيحة في الولائم، هم أشبه بأوراق الشجر التي تتعلق بالغصون طلبا للماء فمتى ما انقطع مورد الماء تساقطت الأوراق على الأرض ليبقى الغصن كالعرجون القديم.

لا تغضب يا صديقي مطلقا غدا من عواقب تغير الحال، فالدنيا حُبلى بالمفاجآت الواحدة تلو الأخرى فقط كن متهيئا لذلك واعلم بأن المفاجآت ليست من الدنيا وإنما هي من بنيها الذين تتعايش معهم، فمتى ما عدت كالعرجون القديم فانظر هل سيبقى من حولك على حالهم أم سيتبدل بهم الحال، هل إذا رأوك في طريق حيّوك كسابق عهدهم أم سيسلكون طريقا غيره وكأنهم قد رأوا شيطانا رجيما! هل ستوسّع لك المجالس وتفرش لك الوثائر وتتهافت الأيدي لتنعم بملامسة يديك بل وتقبيلها أم سيرددون في سرائرهم ما قاله ابن الوردي:

"أنـــا لا أقبـــلُ تقبيــل يـــدٍ

قطعها خـيرٌ مـنْ تلك القبلْ"

سألني يوما أحد أصدقائي المقربين قائلا: هل أصبحت العلاقات قائمة على المصالح بالدرجة الأولى؟ فقلت له "أنت مجرد سلعة لدى البعض متى ما نقصت قيمتها قل الحرص عليها..." نعم قيمة الإنسان أصبحت - غالبا - في هذا الزمن مرهونة بسعره وبقيمته التي تتدلى عليه لا بجوهره الذي يحمله، حتى أصبح البعض لا ينال قيمة إلا إذا عرّف بنفسه ومركزه وكم لقبا يحمل قبل اسمه وبعده كي ينال حظوة لا ينالها بالسكوت المحاط بالجوهر، فالجوهر لا يعرفه إلا من يغوص للأعماق والغوص لا يجيده الكثير...!