لميس نبيل أبوتمام

البودكاست: جسر المعرفة أم فخ السطحية؟

الأربعاء - 16 أكتوبر 2024

Wed - 16 Oct 2024

انطلق البودكاست بقوة في عصر الجيل الثاني من الانترنت، وارتبط في بدايته بصورة وثيقة بشركة آبل، عملاق التكنولوجيا الذي نشط في الترويج لهذه الثقافة.

وبحسب إحصائياتها، فمن المتوقع أن يصل عدد مستمعي البودكاست إلى 500 مليون بحلول نهاية 2024، 47% منهم تتراوح أعمارهم بين 12 و34 عاما، و33% تتراوح أعمارهم بين 35 و54 عاما.

الأمر الذي دفع الصحافة لوصف البودكاست بأنه بمثابة ثقب أسود ذي جاذبية غير مسبوقة، يبتلع الإعلاميين والجماهير بوتيرة متسارعة.

وعلى الرغم مما تحمله برامج البودكاست من إيجابيات في إيصال المعرفة وتقديم المعلومات ونقلها إلى فئات كبيرة من المتلقين في المجتمع، إلا أن الاعتماد الحصري عليها كوسيلة للمعرفة يحمل الكثير من السلبيات التي قد تنعكس على ثقافة الفرد والمجتمع، وبشكل خاص الجيل "زد".

وهنا تعلو التساؤلات حول مقدار المعرفة التي يسهم البودكاست في تركها لدى المتلقي؟ أو بالأحرى، هل يمكننا ملاحظة تناقض واضح بين عدد مستمعي البودكاست، الذي يُقدم عادة كمحتوى معرفي هادف، وعدد القراء والباحثين الجادين؟

نحن أمام أجيال باتت تسمع أكثر مما تقرأ، وتدفع معرفتها بعيدا عن القراءة باتجاه سماعات الأذن وشاشات الأجهزة الذكية.

أما مصادر المعلومات المقدمة عبر البودكاست، فهي ما يقلق أكثر، فقد انتشرت مواضيع هامة عبر برامج البودكاست كالاقتصاد، والإعلام، والتعليم، وتربية الأبناء وريادة الأعمال، كلها أصبحت حصونا مفتوحة للراغبين في التحدث، يتناقلون المعلومات من منصة لأخرى، ظنا منهم بأنهم يحصِّلون الثقافة وينقلونها للمستمع العربي، دون أن يتكبدوا مشقة العناء كالقرّاء والبحث.

وبحسب نظرية عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان، فإن الثقافة في العقود الأخيرة أصبحت تشبه الموضة.

والموضة لا تظل ثابتة، بل هي في حالة تغير دائم. وفي ظل هيمنة ثقافة الاستهلاك المتزايدة، رأى باومان أن هذه الثقافة الاستهلاكية تسعى جاهدة لتكييف مفهوم الثقافة مع منطق الموضة، مما يؤدي إلى ظهور أنماط جديدة من المحتوى التي تدعي أنها تثقف الجماهير، بينما تصدق الجماهير هذا الادعاء.

ما أكثر "الخبراء" الذين يظهرون في برامج البودكاست العربي، مرددين مجموعة من النصائح التي ستجعل منك ثريا، وأبا مثاليا، ومديرا ناجحا، ومتحدثا فصيحا، ومؤثرا في مجالك! هكذا بكل بساطة وفي لمح البصر، دون الحاجة لمعرفة أو دراسة أو تدريب ولا أي تعقيدات، وهنا تكمن المشكلة الحقيقية في المعلومات التي يتم الاعتماد عليها.

مع ثقافة البودكاست يصبح الحصول على معرفة "مُرضية" أمرا يسيرا، لكن هذا لا يعني أن البودكاست يعد نمطا إعلاميا سلبيا.

تكمن المشكلة الرئيسية للبودكاست كمصدر معرفي في مرونة حدوده وعدم وضوحها؛ إذ يمكن لأي شخص إنتاج بودكاست يستضيف ضيوفا، سواء كانوا مؤهلين أو غير مؤهلين، مما يؤدي إلى نقاشات مطولة أمام مستمعين قد يفتقرون إلى قاعدة معرفية كافية حول الموضوع المطروح.

ومن جهة أخرى فإن المستمع الذي يقتصر على ثقافته ومعارفه من خلال هذا النمط الإعلامي، متوهما أنه يغنيه عن المعرفة الجادة التي تتطلب القراءة والتعلم والتدريب.

فالصورة الجذابة والميكروفونات الأنيقة ذات الجودة العالية، مع الحلقات الطويلة نسبيا، قد تخلق هالة مؤثرة حول المحتوى.

لكن هذه الهالة قد تكون مضللة ولا تعكس عمق الحقيقة المعرفية المستخلصة من البودكاست أو المحتوى الرقمي بشكل عام.

من جهة أخرى، تسهم الثقافة الفردية الناتجة عن القراءة والتعلم في تشكيل الشخص، بينما تركز الثقافة الجماهيرية على تقديم معرفة سطحية تحول الأفراد إلى مستهلكين يكتفون بمعلومات سهلة لا تتطلب جهدا.

كما تعتبر المعرفة المستندة إلى القراءة والتفكير ضرورية لتنمية الفكر، بينما قد تؤدي المعرفة المبسطة إلى تراجع قدرات التفكير المجرد.

ويبرز الفارق الجوهري بين ثقافة القراءة وثقافة الصورة والاستماع في كيفية تفاعل المتلقي مع المعلومات، فالقراءات المتعددة تساعد على تشكيل أفكار ناضجة من خلال استكشاف وجهات نظر متنوعة.

في المقابل توفر المعلومات المرئية والمسموعة عادة رؤية أحادية ومجزأة، مما يحد من قدرة الأفراد على تكوين فهم عميق أو إصدار أحكام ناضجة بشأن الموضوعات المطروحة.

وعلى الرغم من السلبيات في نشر المعرفة، يظل البودكاست نمطا إعلاميا متميزا يقدم فوائد عديدة للجماهير، خاصة بفضل حداثته وإمكانياته للتطور.

فهو يفتح آفاقا جديدة من خلال المناقشات ويعرّف المستمعين على رموز فكرية مفيدة.

ومع ذلك يجب على الجمهور أن يكون واعيا لعدم الانخداع بالهيئة الجادة التي يتسم بها البودكاست، مما قد يوهمهم بأنهم يحصلون على ثقافة تعوضهم عن القراءة.