شاهر النهاري

حول الغرف المغلقة يلطمون الجدران

الثلاثاء - 15 أكتوبر 2024

Tue - 15 Oct 2024

تخطيط وتصميم هندسة الأمنيات كان يدعو الكثير بيننا لجعل بيوتهم كبيرة كثيرة الغرف، حتى تحتوي فائض أمنيات يحيونها بعدد أبناء كثر، وأحفاد يترسون الغرف، حتى لا يجد القلب مفرا من البقاء في حديقة الحب، طوال العمر.

ذلك ما فعله الكثير من كبار السن ببيوتهم، وبعد سنوات وجدوا أن أغلب الغرف في بيوتهم فارغة، ليس فقط غرف الضيوف الفسيحة، والتي يظلون يحاولون إبعاد الغبار عنها بشكل حيرة، ولكن حتى غرف النوم، لم يعد أحد يسكنها، فالأبناء والبنات رحلوا على جناح أعمالهم وحياتهم الجديدة وطموحاتهم إلى بيوت أصغر اختاروها لأسرهم الصغيرة، ولكنهم يظلون متواصلين مع صاحبي الدار الكبيرة، أمهم وأبيهم بقدر استطاعتهم، ففي مطاحن المدن والعمل تبرز مصاعب دوامات الزحام، والغربة ليست فقط لمن يرحلون خارج الوطن، ولكنها تسكن في الشوارع القريبة!

الوالد الجد يمر مرات على الغرف الفارغة، ويفتح أبوابها، ويلطم جدرانها علها تنطق، وهي تحاول أن تشرح له أعذار من هجروها، فلا صوت يرد، إلا عبر شاشة الهاتف.

المرور على الأطلال والتأسي بالحنين عادات عربية أصيلة، يحركها شعور الوجد، وأمنيات بأن يأخذ أحد الأبناء إجازة، ويعود مع أسرته لمشاركة تلك الغرف حنينها، ولكن ذلك لا يحدث كثيرا.

الأبناء لا يقصرون، فهم يحضرون التجمعات العائلية، ورسم الصور الاجتماعية عن أسرتهم الكبيرة، ولكنهم يفشلون مرات في التوفيق بين الواقع المتباعد، وبين الرغبة في إسعاد الكبار، فمن غير الممكن أن يهجروا بيوتهم، ويعودوا ليسكنوا بيت طفولتهم، وسط ظروف وارتباطات ومشاغل لا تسمح.

مرات كان الأب يزاول لطم جدران الغرف المغلقة، ولكنه يتنبه حينها أنها لم تكن فارغة، فقرينته في طرف منها تبكي، وتمسح بعض وجوه الصور، وتنوي على إعادة الحيوية لتلك الغرف، بغسل الستائر، وتحريك الخزنة الصغيرة، وتلميع الموبيليا، وكم تفكر بالتغيير الشامل، فربما إن تقادم الأثاث سبب هذا العزوف منهم.

مشاعر الوالدين حريصة، وكم تشدهما نسمات تخرج من تحت أبواب الغرف، فهل المكيف مفتوح، أو أن أحد العاملين ترك إحدى النوافذ مفتوحة على بساط الريح!

كل تلك المشاعر حية، وهي تبحث عن يقين، وعن ساكن يعود يشغلها بطلباته لكي ملابسه، ولقمته وعصيره، وألعابه، ونومه متأخرا، ولكن الأيام لا تستمر بوتيرتها، فالتغييرات لا تكتفي بالشارع والجيرة، ولكنها تظل تغرس حنينها في شغاف السلالم والأبواب، وقلوب المرايا، وتكسو الجدران بشيء من الظلال يبكي بين الصور القديمة، بتلك الصرخات، والعناد، وكلمة بابا وماما، ممن أصبحوا يزورونهما دون ثني الركبة، ويقبلون فوق غطاء الرأس، ويؤكدون شوقهم، واهتمامهم، لولا المشاغل حتى عن شرب فنجان شاي، ومسامرة تستعيد الذكريات.

للآباء والأمهات أقول: لا تحزنوا فتلك طبيعة البشر، وحاولوا تقدير ظروف الحياة الجديدة، وتمتعوا بأقل الموجود، دون تكسير الصور باللطم.

وللأبناء أقول: حتى ولو كانت لديكم من الغرف الحديثة ما لا يأبه للطم، حاولوا الموازنة، وردم الصدوع، وتلميع علاقاتكم بمن كنتم وما زلتم بهجتهم ومناطق اهتمامهم ومحبتهم وحرصهم، والدنيا دوارة، وأبناؤكم الصغار لا بد أن يأتي عليهم يوم، يجربون قوة أجنحتهم، وينتقون أعشاشا جديدة وموالف، فلا تستهينوا بفهم نوازع لطم جدران الغرف الفارغة الحزينة.