محمد علي الحسيني

فقه التجارة

الاثنين - 14 أكتوبر 2024

Mon - 14 Oct 2024

تعد التجارة من المهن القديمة التي لها أهمية كبيرة في الاقتصاد وانعكاساته على الفرد والمجتمع، ولا شك في أن نجاح النشاط التجاري يقوم على عدة مقومات من بينها خدمة الزبائن وإرضاؤهم، وكسب ثقتهم وتلبية حاجياتهم في كل الأوقات، ولكن في المقابل هناك الوجه الآخر لبعض التجار الذين يطمحون لتحقيق مكاسب كبيرة في وقت قصير عبر احتكار السلع والهيمنة على السوق، وللأسف أن جشعهم أدى إلى نتائج وخيمة، ورغم وجود القوانين من جهة وتحريمه في الإسلام من جهة أخرى، إلا أن هناك من يغتنم الفرصة ليحكم قبضته والأدهى والأمر القيام بهذه الأفعال في ظروف اقتصادية متدهورة يعاني منها المجتمع بأكمله.

تعريف التجارة‌
لغة‌: هي‌ انتقال‌ شي‌ء مملوك‌ من‌ شخص‌ إلى آخر بعوض‌ مُقدّر بتراض بغرض الربح.

‌اصطلاحا: التجارة تعني الاكتساب، أو تبادل السلع للانتفاع والربح وبعبارة أخرى هي نوع من عملية الإنتاج؛ إذ غالبا ما تخلق منفعة جديدة.

أولى الإسلام العمل في التجارة أهمية خاصة، والحث والتشجيع عليها، والتأكيد على أن في الاتجار بركة، عن أبي جعفر قال "قال رسول الله صلى الله عليه وآله: البركة عشرة أجزاء تسعة أعشارها في التجارة".

حلية التجارة
استدل على حلية وصحة التجارة بقوله تعالى ﴿لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض﴾.

فمن خلال الآية الكريمة يستدل على حلية وصحة التجارة بشكل عام مع التقيد بالضوابط الشرعية الخالية من المحظورات الشرعية، فقد أوجب الفقهاء تعلمها، أي «التفقه فيها»، قبل القيام بالتجارة.

فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق "من أراد التجارة فليتفقه في دينه؛ ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط في الشبهات"، المراد من التفقه في التجارة التعرف على أحكامها ليميز بين العقود الفاسدة وغير الفاسدة، وليسلم من الربا والذنوب التي لا علم له بها.

الشروط الشرعية للاتجار
التجارة لها شروطها الشرعية، وهذه الشروط لا ترمي إلى تعقيد حركة التجارة، بل على العكس من ذلك، فالتشريع الإسلامي حريص على تسهيل حركة التجارة وتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان انتظام حركة السوق، لذلك رفض النبي (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار) التسعير، ودعا إلى الابتعاد عن الظلم والخداع والتلاعب بالأسعار وما يشكل مضرة للعامة، وما لم تتوفر التجارة على شروط الشرعية كانت مصداقا لأكل المال بالباطل.

الشروط الشرعية المتصلة بالعدالة الاجتماعية في التجارة
تكون التجارة شرعية طالما لم يكن فيها احتكار أو غش أو تطفيف، فالاحتكار المحرم هو ما يضر بالناس، لذلك حرمه الإسلام في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار) "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون"، أما التطفيف فهو البخس في المكيال والميزان، إما بالازدياد إن اقتضى من الناس، وإما بالنقصان إن قضاهم، أي أنه إذا أخذ لنفسه أخذ أكثر من حقه، وإذا أعطى أعطى أقل من الواجب، أي يأخذون حقهم بالوافي والزائد، قال تعالى ﴿ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون﴾، أما الغش: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار) "من غش أخاه المسلم نزع الله منه بركة رزقه، وأفسد عليه عيشته، ووكله إلى نفسه".

آداب التجارة
إن معرفة آداب ومستحبات التجارة وقوانينها أمر أخلاقي ومهم، يسمح للتاجر أن يتساهل في تعامله مع زبائنه وقاصديه وصغار التجار بأن ييسر ظروف المعاملة التجارية من حيث نوعية البضاعة وعرضها ونقلها ودفع ثمنها وحسم قسم منه والسكوت عن بعضه، والمهم أن لا يقف عقبة في وجه إتمام الصفقة التجارية، والملاحظ في كل النصوص التي تتناول هذا الموضوع أنها تعبر عن التاجر المتسامح والمتساهل في تعامله، بتعابير كفى بها فخرا وتجارة لن تبور.

فلا يجوز للتاجر أن ينشغل بالتجارة عن الصلاة، كما هو حال أكثر التجار اليوم، بل ينبغي عليه أن يستعد للصلاة ليأتي بها عند أول أوانها ليكون من الرجال الذين قال فيهم المولى عزوجل ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة﴾، كما من الواجب عليه مراعاة حالة الاضطرار والحاجة لدى الناس، فعليه أن يكون محبا لإخوانه المسلمين، فلا ينتهز حالة ضعفهم وحاجتهم فيستغلهم ويبطش بهم خصوصا في حالة الأزمات والظروف الاستثنائية.

ومن جملة الآداب التي يجب على التاجر التحلي بها ترك الحلف بالله تعالى، لقول رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأخيار): ويل لتجار أمتي من "لا والله" و"بلى والله".

كما يجب على التاجر عدم كتم العيب البسيط الذي يتسامح فيه عادة، فإن لم يكن كذلك، فلا يجوز كتمانه أصلا، وللمشتري حق الفسخ عند علمه به ولو بعد حين، فلا يرضى للناس من البضاعة والمعاملة إلا ما يرضاه لنفسه، وعليه أن يحرص على إرضاء الزبائن بالعدل، وألا يكون جشعا فيكون الربح قليلا ومعقولا، وإذا حصل الربح باع مباشرة ولا ينتظر مشتريا آخر، ومن الأفضل أن يكتب التاجر كتابا واضحا يبين فيه الحقوق بالتفصيل دون لبس، عند أي بيع أو دين أو معاملة عملا بقوله تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل﴾، ولا شك أن ذلك يجنب التاجر والمتعاملين معه الوقوع في المشاكل نتيجة عدم وضوح أسس الاتفاق، وما لكل طرف وما عليه، كما يستحب للتاجر ألا يستخف بقليل الرزق "فمن استقل قليل الرزق حرم كثيره".

خلاصة فقه التجارة
إن الشريعة الإسلامية التي ترى في التجارة منفعة ممدوحة تلزم التاجر أن يتعلم أحكام ما يتولاه؛ ليتمكن من الاحتراز عما حرمه الله تعالى عليه، ويعرف ما أحله، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار) "التاجر فاجر، والفاجر في النار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق"، لذلك يتعين على التجار أن يتفقهوا في الدين و ينتهجوا نهج الإسلام في الابتعاد عن المخالفات الشرعية وعليهم الالتزام بالضوابط الشرعية والآداب التي ترتبط بالأخلاقيات الإسلامية، ومن هذه الآداب ما يشير إليه الحديث التالي الذي هو من جوامع كلام النبي (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأخيار) في هذا المجال "إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يطروا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا".

sayidelhusseini@