جَلد.. يجلد.. جلداً
الأربعاء - 09 أكتوبر 2024
Wed - 09 Oct 2024
من منّا لم يقف يوما أمام المرآة، يواجه صوتين متصارعين في أعماقه؟ أحدهما يسخر من جهوده ينعتها بالفشل، فيسقط في دوامة الإحباط والشك، والآخر صوت عقلاني يحاسبه بتوازن ويدعوه للتعلم من الأخطاء وتجاوز العثرات.
الفارق بين الصوتين هو الذي يحدد ما إذا كنا سنقفز من إخفاقاتنا نحو النجاح، أو سنغرق في دوامة من جلد الذات المستمر.. وكأننا نعاقب أنفسنا بقسوة لنغرق في دوامة من اللوم اللاذع، حيث يتحول الفشل إلى عبء نفسي يشل القدرة على التقدم.
فمتى كانت آخر مرة حاسبت فيها نفسك بموضوعية دون أن تقسو عليها؟ وكيف يمكننا رؤية ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل النقد البنّاء عن جلد الذات؟
يخطئ البعض في الظن أن جلد الذات وسيلة للتكفير عن أخطاء الماضي، بينما هو أسلوب يلتهم الثقة ويعطل النمو. يتطلب النقد، الشجاعة، والشفافية، لأنه يتضمن نظرة متزنة نحو الذات لفهم مكامن الأخطاء وتحديد أساليب تصحيحها.
ففي دراسة أجرتها جامعة هارفارد، تبين أن 60% من الأفراد الذين يمارسون النقد الذاتي البنّاء بانتظام.. يشعرون برضا أكبر عن حياتهم، ويتمتعون بقدرة أعلى على مواجهة التحديات اليومية، ويظهرون مرونة أكبر في اتخاذ قرارات حاسمة بشأن مستقبلهم المهني والشخصي.
هؤلاء الأفراد لا يهربون من أخطائهم، بل يتعلمون منها ويتقدمون بشكل مدروس.
بينما يميل الأشخاص الذين يمارسون جلد الذات إلى الانغماس في أخطائهم، مما يؤدي إلى تآكل الثقة بالنفس وزيادة الشعور بالعجز والدونية.
ما دفعني للكتابة عن هذا الموضوع هو ملاحظة تزايد ظاهرة التعبير عن مشاعر الاستحقاق لدى فئة كبيرة من الشباب، والتي تتجلى في تضخيم الذات والإفراط في تقدير الإنجازات الشخصية.
هذا السلوك يمكن أن يكون ناتجا عن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتعرض الأفراد يوميا لصورة مثالية من النجاح والثروة، مما يولد شعورا بأنهم يستحقون المستوى نفسه من الاعتراف والفرص دون الحاجة لبذل الجهد المطلوب.
وفقا لدراسات نفسية حديثة، فإن ثقافة المكافأة الفورية والانتشار الواسع لمفاهيم النجاح السريع تعزز هذا الشعور. يظهر هذا في تزايد حالات الإحباط بين الشباب عند مواجهة التحديات أو النقد البناء، حيث يعتبرونه تهديدا لتقديرهم المبالغ لذواتهم.
هذه الظاهرة قد تؤدي إلى تآكل قيم مثل المثابرة والتواضع التي كانت في السابق أسسا لتحقيق النجاح الحقيقي.
تضخيم الذات أو جلدها هما وجهان لاضطراب داخلي واحد، ينبع من خوف دفين من الفشل وسعي للمثالية، لحماية النفس من الشعور بالرفض والضعف، بينما ينغمس آخرون في جلد الذات عند أي خطأ، لشعورهم بأنهم لم يرتقوا لتلك المعايير الزائفة التي وضعوها.
في هذا السياق يأتي مفهوم النفس اللوّامة الذي يختلف جزئيا عن جلد الذات. النفس اللوامة تصحح الأفعال بلطف لتطوير الذات، فبدلا من أن تقول "أنت فاشل"، تقول "كان بإمكانك التخطيط بشكل أفضل".
أما نقد الذات فيحلل السلوكيات بوعي لتحقيق النمو، بينما جلد الذات فيهاجم الشخصية بقسوة، محطما الثقة بدلا من بنائها.
الفرق يكمن في أن الأولين يهدفان للإصلاح، بينما الثالث يدمر النفس.. وقد يؤدي إلى مشكلات صحية مثل ارتفاع مستويات القلق والاكتئاب، ويضعف القدرة على مواجهة الأزمات.
ما أريد قوله.. أنه في الأوقات العصيبة وعند مواجهة تحديات كبيرة، سواء في العمل أو الحياة الشخصية، يميل الإنسان إلى لوم نفسه وجلد ذاته بشكل مفرط، يركز فيه على ما لم ينجز بدلا من النظر إلى ما يمكن فعله لتحسين الوضع.
لذا يصبح من المهم أن نمارس النقد الذاتي بطريقة متزنة.
من الأساليب المتبعة أن نخصص وقتا لمراجعة التجارب اليومية وتدوين الأفكار حتى نفهم الأخطاء.. فلا نكررها.. ومن المفيد أيضا طلب الملاحظات من الأصدقاء والزملاء، حيث يمكن لوجهات النظر الخارجية أن تقدم لنا وجهة نظر مختلفة عما نفكر به.. لأن الهدف ليس المثالية بل التعلم والنمو.
لذا تزايد الاهتمام في هذا العصر بتحقيق هذا التوازن، حيث تتجه برامج التطوير المهني والشخصي بشكل مكثف.. إلى دمج النقد الذاتي في أساليب التقويم داخل إطار يحفز النمو، خاصة مع تزايد الضغوط في بيئات التعليم والعمل.. ومن المتوقع أن تركز الأبحاث المستقبلية على إيجاد أساليب لتدريب الأفراد على النقد البناء، وتمكينهم من رؤية الصورة الأكبر وتجنب الوقوع في فخ جلد الذات.
فيا ترى.. هل سنشهد تحولا حقيقيا في كيفية تعاطي الأفراد مع تجاربهم الشخصية والمهنية؟ وكيف نضمن أن يصبح النقد الذاتي أداة فعالة لتحقيق الأهداف بدلا من كونه مصدر قلق إضافي؟ الجواب يكمن في وعي الإنسان بكيفية توجيه النقد، إذ ينبغي أن يكون النقد وسيلة للفهم وليس للهجوم، يجب أن يساعد في تحديد أسباب الفشل دون أن يختزل قيمة الفرد في أخطائه.
يتعافى المرء بقدر قربه من روحه كما يقول أحمد خالد توفيق... نحن نتعلم من الخطأ السير في دروب الصواب، لنحاسب أنفسنا بتوازن ووعي أكبر، دون أن نجلدها جلدا.. النقد يضيء مناطق العتمة في الذات، دون أن يطفئ ما هو مضيء... ليكتشف المرء كم هو قابل أو مجبر على التغيير... وكم من الممكن أن يكون صريحا وصادقا ولينا وودودا مع نفسه قبل الآخرين، فنصف حكمة الإنسان في النقد الذاتي.. ولا شيء يثقل الكاهل أكثر من صورة مثالية يصنعها المرء لنفسه، تتطلب منه جهدا دائما للحفاظ عليها.
smileofswords@
الفارق بين الصوتين هو الذي يحدد ما إذا كنا سنقفز من إخفاقاتنا نحو النجاح، أو سنغرق في دوامة من جلد الذات المستمر.. وكأننا نعاقب أنفسنا بقسوة لنغرق في دوامة من اللوم اللاذع، حيث يتحول الفشل إلى عبء نفسي يشل القدرة على التقدم.
فمتى كانت آخر مرة حاسبت فيها نفسك بموضوعية دون أن تقسو عليها؟ وكيف يمكننا رؤية ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل النقد البنّاء عن جلد الذات؟
يخطئ البعض في الظن أن جلد الذات وسيلة للتكفير عن أخطاء الماضي، بينما هو أسلوب يلتهم الثقة ويعطل النمو. يتطلب النقد، الشجاعة، والشفافية، لأنه يتضمن نظرة متزنة نحو الذات لفهم مكامن الأخطاء وتحديد أساليب تصحيحها.
ففي دراسة أجرتها جامعة هارفارد، تبين أن 60% من الأفراد الذين يمارسون النقد الذاتي البنّاء بانتظام.. يشعرون برضا أكبر عن حياتهم، ويتمتعون بقدرة أعلى على مواجهة التحديات اليومية، ويظهرون مرونة أكبر في اتخاذ قرارات حاسمة بشأن مستقبلهم المهني والشخصي.
هؤلاء الأفراد لا يهربون من أخطائهم، بل يتعلمون منها ويتقدمون بشكل مدروس.
بينما يميل الأشخاص الذين يمارسون جلد الذات إلى الانغماس في أخطائهم، مما يؤدي إلى تآكل الثقة بالنفس وزيادة الشعور بالعجز والدونية.
ما دفعني للكتابة عن هذا الموضوع هو ملاحظة تزايد ظاهرة التعبير عن مشاعر الاستحقاق لدى فئة كبيرة من الشباب، والتي تتجلى في تضخيم الذات والإفراط في تقدير الإنجازات الشخصية.
هذا السلوك يمكن أن يكون ناتجا عن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتعرض الأفراد يوميا لصورة مثالية من النجاح والثروة، مما يولد شعورا بأنهم يستحقون المستوى نفسه من الاعتراف والفرص دون الحاجة لبذل الجهد المطلوب.
وفقا لدراسات نفسية حديثة، فإن ثقافة المكافأة الفورية والانتشار الواسع لمفاهيم النجاح السريع تعزز هذا الشعور. يظهر هذا في تزايد حالات الإحباط بين الشباب عند مواجهة التحديات أو النقد البناء، حيث يعتبرونه تهديدا لتقديرهم المبالغ لذواتهم.
هذه الظاهرة قد تؤدي إلى تآكل قيم مثل المثابرة والتواضع التي كانت في السابق أسسا لتحقيق النجاح الحقيقي.
تضخيم الذات أو جلدها هما وجهان لاضطراب داخلي واحد، ينبع من خوف دفين من الفشل وسعي للمثالية، لحماية النفس من الشعور بالرفض والضعف، بينما ينغمس آخرون في جلد الذات عند أي خطأ، لشعورهم بأنهم لم يرتقوا لتلك المعايير الزائفة التي وضعوها.
في هذا السياق يأتي مفهوم النفس اللوّامة الذي يختلف جزئيا عن جلد الذات. النفس اللوامة تصحح الأفعال بلطف لتطوير الذات، فبدلا من أن تقول "أنت فاشل"، تقول "كان بإمكانك التخطيط بشكل أفضل".
أما نقد الذات فيحلل السلوكيات بوعي لتحقيق النمو، بينما جلد الذات فيهاجم الشخصية بقسوة، محطما الثقة بدلا من بنائها.
الفرق يكمن في أن الأولين يهدفان للإصلاح، بينما الثالث يدمر النفس.. وقد يؤدي إلى مشكلات صحية مثل ارتفاع مستويات القلق والاكتئاب، ويضعف القدرة على مواجهة الأزمات.
ما أريد قوله.. أنه في الأوقات العصيبة وعند مواجهة تحديات كبيرة، سواء في العمل أو الحياة الشخصية، يميل الإنسان إلى لوم نفسه وجلد ذاته بشكل مفرط، يركز فيه على ما لم ينجز بدلا من النظر إلى ما يمكن فعله لتحسين الوضع.
لذا يصبح من المهم أن نمارس النقد الذاتي بطريقة متزنة.
من الأساليب المتبعة أن نخصص وقتا لمراجعة التجارب اليومية وتدوين الأفكار حتى نفهم الأخطاء.. فلا نكررها.. ومن المفيد أيضا طلب الملاحظات من الأصدقاء والزملاء، حيث يمكن لوجهات النظر الخارجية أن تقدم لنا وجهة نظر مختلفة عما نفكر به.. لأن الهدف ليس المثالية بل التعلم والنمو.
لذا تزايد الاهتمام في هذا العصر بتحقيق هذا التوازن، حيث تتجه برامج التطوير المهني والشخصي بشكل مكثف.. إلى دمج النقد الذاتي في أساليب التقويم داخل إطار يحفز النمو، خاصة مع تزايد الضغوط في بيئات التعليم والعمل.. ومن المتوقع أن تركز الأبحاث المستقبلية على إيجاد أساليب لتدريب الأفراد على النقد البناء، وتمكينهم من رؤية الصورة الأكبر وتجنب الوقوع في فخ جلد الذات.
فيا ترى.. هل سنشهد تحولا حقيقيا في كيفية تعاطي الأفراد مع تجاربهم الشخصية والمهنية؟ وكيف نضمن أن يصبح النقد الذاتي أداة فعالة لتحقيق الأهداف بدلا من كونه مصدر قلق إضافي؟ الجواب يكمن في وعي الإنسان بكيفية توجيه النقد، إذ ينبغي أن يكون النقد وسيلة للفهم وليس للهجوم، يجب أن يساعد في تحديد أسباب الفشل دون أن يختزل قيمة الفرد في أخطائه.
يتعافى المرء بقدر قربه من روحه كما يقول أحمد خالد توفيق... نحن نتعلم من الخطأ السير في دروب الصواب، لنحاسب أنفسنا بتوازن ووعي أكبر، دون أن نجلدها جلدا.. النقد يضيء مناطق العتمة في الذات، دون أن يطفئ ما هو مضيء... ليكتشف المرء كم هو قابل أو مجبر على التغيير... وكم من الممكن أن يكون صريحا وصادقا ولينا وودودا مع نفسه قبل الآخرين، فنصف حكمة الإنسان في النقد الذاتي.. ولا شيء يثقل الكاهل أكثر من صورة مثالية يصنعها المرء لنفسه، تتطلب منه جهدا دائما للحفاظ عليها.
smileofswords@