بشرى فيصل السباعي

أجيال ترث المال.. وأجيال ترث الديون

الاثنين - 02 سبتمبر 2024

Mon - 02 Sep 2024

الأجيال الحالية في النصف الأول من حياتهم الذي يدفعون فيه حوالي عشرين ريال قيمة قهوة الصباح والفاتورة الباهظة للعشاء المعتاد في مطعم فاخر لن يشعروا بعواقب نمط حياتهم هذا حتى يكبر أولادهم ويصبحوا في سن طلب السيارة والزواج وتوابعه، وعندها سيكتشفون أن ما وفره لهم آباؤهم من سيارات وزواج وشقة مجانية لن يمكنهم منح شيء مشابه له لأولادهم لأنهم أنفقوا كل دخلهم على رفاهيتهم وكماليات حياتهم، ولم يدخروا شيئا لأولادهم كما كانت تفعل الأجيال السابقة، التي كان فيها الوالدان يعيشان غالبا نمط حياة زاهدا ومتقشفا، وإن كان لهم دخل كبير، لأن الادخار للمستقبل كان أولوية وثقافة سائدة، ولذا كانت هناك مدخرات كافية لدى الآباء لشراء سيارات للأبناء وتزويجهم وشراء عمارة يسكن فيها كل الأبناء، وفوق هذا يبقى لهم من بعد وفاة الأب إرث مالي دون أن يكلف عليهم أو يتطلب منهم أي مساعدات مالية بعد تقاعده وزيادة نفقاته بسبب تكاليف علاج أمراض الشيخوخة، ويكون هناك بيت مملوك للعائلة وليس إيجارا.

بينما أجيال الآباء الحاليين الذين عاشوا لأنفسهم فقط ولم يفكروا في مستقبل أبنائهم يتعرضون لصدمة مالية عندما يكبر أبناؤهم بسبب عجزهم عن توفير احتياجاتهم، وفوق هذا لم يدخروا شيئا لمستقبلهم الشخصي عندما سيحتاجون للعلاج الطبي باهظ التكلفة، ولا يكفيهم راتب التقاعد ولم يتملكوا بيتا ويعيشون بالإيجار، وفوق هذا عليهم ديون لا يمكنهم سدادها طوال حياتهم ويورثونها أولادهم بدل أن يورثوهم المال كالأجيال السابقة.

وبالطبع الآباء الذين يعيشون لأنفسهم ولا يفكرون في الادخار لأجل مستقبل أولادهم من حقهم القيام بهذا الخيار لأن الآباء ليسوا ملزمين شرعا وقانونا بالإنفاق على الأبناء البالغين القادرين على العمل، لكن بالمقابل أيضا ليس من حقهم أن يورثوا أبناءهم ديونهم، ولا يوجد خطاب توعية مالية للأجيال الحالية حول أهمية الادخار ليس فقط لأجل مستقبل الأبناء إنما أيضا لأجل زيادة الدخل باستثمار المدخرات.

استسهال القروض والديون خلق وهم الرفاهية الذي يشعر الإنسان بعدم الحاجة لزيادة دخله بالمزيد من العمل والادخار لاستثمار المدخرات، والنتيجة خفض جذري بنوعية حياة العائلة والأبناء بسبب عواقب العجز عن سداد الديون من إيقاف خدمات وربما السجن، بينما الأجيال السابقة كانت الديون والقروض بالنسبة لهم للضروريات القصوى فقط وضمن حدود قدرتهم على سدادها، وكانوا يكيفون كل حياتهم لسرعة سدادها كواجب ديني، لأنه ورد في الأحاديث النبوية أن روح الإنسان تبقى معلقة ومحبوسة بدينه ولا تتحرر إلا بقضاء دينه، ولذا كان الناس يتجنبون القروض والديون ويحرصون على قضائها بأسرع وقت، بينما غالب الديون والقروض الشخصية حاليا هي للرفاهية والكماليات ولا تتم إدارتها بشكل رشيد مع ميل للمماطلة واللامبالاة والتهرب من قضائها.

كثافة من يتعرضون لعقوبات ووقف خدمات بسبب الديون يعني وجود حاجة لخطاب توعية مالية لخلق رشد مالي لدى الأفراد العاديين، قبل أن يورطوا أنفسهم وعوائلهم بالديون وعواقبها، ومن مصلحة الأجيال الحالية أن تتعلم دروس الرشد المالي من آبائهم وأجدادهم، فالثقافة الاستهلاكية العدمية كارثية في عواقبها بالنسبة للطبقات الوسطى وما دونها، ولا يمكن أن تستمر إلا لفترة محدودة لأن أصحابها يغرقون أنفسهم بالقروض والديون ويستنفذون دخلهم المالي بشكل غير رشيد.

ثقافة المظاهر والتفاخر والتباهي بخاصة عبر حسابات مواقع التواصل فاقمت من أزمة الثقافة الاستهلاكية، لأن الاستعراض بالمشتريات والماركات وارتياد الأماكن الباهظة بات هو المحتوى الرئيسي لغالب أصحاب الحسابات، والكل يريدون مجاراة ما يرونه في حسابات الآخرين، وهذا سبب رئيسي من أسباب المشاكل الأسرية التي كثيرا ما تصل للطلاق.