ناقية الهتاني

عقلية الاستشكال

الخميس - 29 أغسطس 2024

Thu - 29 Aug 2024

الاستشكال من المصطلحات والمفاهيم القانونية التي ظهرت في القضاء والأحكام القضائية، وهي تدخل ضمن الاعتراضات على التنفيذ، دون فهم المعني أو الأسباب أو العلل، وعقلية الاستشكال هي تلك العقلية التي ظهرت لدى بعض الأشخاص نتيجة عدة عوامل منها، الاختلاف الثقافي والتنوع الاجتماعي، وكان من ممارساتهم حق الاعتراض، وحق إطلاق الأحكام على المواقف والأشخاص والأحداث، والتي نظروا لها من زاويتهم الضيقة، فنراهم يصدرون التقييم وفق قناعات وأفكار اختزنوها في عقولهم جعلتهم يظنون أنهم امتلكوا تأهيلا بذلك.

وأحد المفاهيم التي وجدت خلطا وتداخلات هي؛ "الشخصية الحساسة" وظهرت فيها عقلية الاستشكال واضحة وجلية، فأصحاب هذه العقلية عند تعاملهم مع الشخصية الحساسة يزيد لديهم الخلط والشك، وتتضاءل ثقافتهم، ثم تتأرجح أوصافهم بين القرب والبعد، ولتصحيح هذا المفهوم لا بد أن نقف على الفرق بينها وبين الشخصية الانفعالية التي ليست هي محور في هذا المقال.

انطلاقا من الجانب الفلسفي لتعريف سمات الشخصية الحساسة، نجد أنها ليست انفعالية أو سريعة الغضب أو أنها تفسر المواقف بطرق غريبة أو حتى أنها شديدة التأثر من ردات فعل الآخرين، لأن هذه تعاريف أقرب إلى المزاجية المرتبطة بالشعور، والتي تؤثر في السلوك فتظهر عيوبا للشخصية، وكأن حساسيتها عيبا لا ميزة، وهذا تصور واقعي لما ارتسم في عقولهم عنها، ولذلك ظهرت هذه الشخصية بسمات لا يمكن إدراكها بسهولة إلا للمتأمل الفطن.

أما من الجانب المعنوي النفسي للتعريف فهي تلك الشخصية التي ترى واقعا قريبا سيحدث، وآلاما لم يفصح عنها، تشعر بكل ما يدور حولها، تترقب بكل حواسها المواقف وتتأمل الأحداث وتتفحص الأشخاص، تقرأ بكل رفق ما يخالج أفكارهم وتتفهم ما يعكس تصرفاتهم، فصنعوا أصحابها برهف الحساسية بطولات ترددت عبر قصص التاريخ وأحداث الحاضر وتصورات المستقبل.

علينا أن نتأمل أصحاب المواقف الإنسانية من اقتطعوا وقتا لدورهم الإنساني الذي كان خلاصة واقعية لسمات الشخصية الحساسة التي يحملونها.

فالجمعيات الخيرية المنتشرة في كل مكان هي صور لمن كانوا في عون غيرهم، وأفكار الاختراعات التي ارتبطت أكثرها بحاجة المعاقين "أصحاب الهمم" هي صور لمن كرسوا طاقاتهم وإمكانياتهم المادية والمعنوية لجعل ما حولهم يبدو مساحة من الممكن والمعقول لغيرهم، كما أن من عكفوا على البحث والدراسة والتجريب لخلق حلول لمشاكل قائمة هم قدوات لشخصيات وظفت حساسيتها لخدمة البشرية.

لعلنا هنا نقف على فكرة المنصات التي ارتبطت أسماؤها بالخير والإحسان والفرج (فرجت، إحسان، وغيرها....) ذات الهدف السامي من حفظ الكرامة إلى تفريج الكربة إلى قداسة الارتباط الإنساني، وتلك الأيادي التي مسحت على رأس اليتيم والمريض والعاجز واستمعت بشغف لمعرفة دوافعهم ثم قدمت دعما مدروسا ارتبط شعورا وسلوكا. كلها مواقف تزداد عظمة عندما نعلم أنها كانت تصورات وأفكار شخصيات "حساسة" تلمست الاحتياجات وتبنتها وألزمت نفسها بإيجاد حلول.

وقد أترك لكم مساحة للخيال في إحدى الصور الافتراضية التي انتشرت فيها عقلية الاستشكال فأصبح كل قول يقال لكل فعل، وكل فعل يمكن أن يقدم في أي وقت، وأي احتياج قد لا يلاحظ ولا يلبى، وهذه الصورة نتيجة متوقعة عندما لا نجد من يوظف حواسه وحساسيته في الاختيار والتأمل والربط وتلمس الاحتياجات.

وبالرغم من ذلك نعلم أنه عندما يكون الحديث عن "الشخصية وسماتها" فأننا نتأكد أنه في ضوء هذه العقلية سيطول الحديث وستتداخل الأفكار ويكثر الخلط بين المفاهيم وتصوير الأحكام بطرق أكاد أجزم أن أصحاب هذه العقلية في كل مرة سيظهرون أحكاما مختلفة، من شدة الخلط الذي كانوا على غير وعي ودراية به.

بعد هذا الاستطراد في صقل وتنقية هذا المفهوم من الاستشكالات التي أحاطت به، يظل الاستشكال الذي يرافق كل مواقف وأحداث الحياة معيقا للحركة في أي اتجاه، وفي أي مجال، ويزداد صعوبة حين نسمح لأنفسنا بالتصرف والحكم دون محاولة جادة للتأمل أو الفهم، والذي ينعكس على تفهمنا في كل المستويات.

NS_nagiah@