الكنز في الصندوق
الأربعاء - 28 أغسطس 2024
Wed - 28 Aug 2024
"خمسة عشر رجلا ماتوا من أجل صندوق"، هذا ليس عدد الضحايا في مسلسل جديد عن قراصنة الكاريبي، بل عبارة طافت في رأسي بينما كنت أبحث عن معنى أكبر لمفهوم النضج، وجدتني أسترجع ذكرى جون سيلفر، والببغاء الملون الذي يتحدث بكلام ملون، وجيم الصغير الذي تحول من طفل بريء إلى قرصان مغامر بين ليلة وضحاها.
"جزيرة الكنز"؛ الرواية التي قضينا جزءا من طفولتنا ونحن نتابع مسلسلها الكرتوني بشغف، دون أن نعي حقيقة أن القراصنة ليسوا هم الأبطال الذين يجلبون الذهب، بل أولئك المساكين الذين يضيعون في البحر وهم يبحثون عن شيء قد لا يكون موجودا أصلا.
تذكرت حين كنت في العاشرة من عمري، أن أجمل متع الطفولة كانت في لعب لعبة الكنز حول الشاليه البحري أو كبينة البحر في شاطئ جدة. "كبائن البنوي" كانت أقدم وأجمل الأماكن في أبحر.. كانت تحمل من المعطيات ما يحفزنا أنا وأخوتي وأصدقاءنا على بدء مغامرة افتراضية للبحث عن كنز مزعوم.. مقلدين أبطال جزيرة الكنز.. رسمنا خريطة وحفرنا بركة ماء صغيرة بالقرب من الشاطئ، غرزنا الأعواد الجافة والأصداف في الرمال المبللة، استخدمنا كل ما هو متاح من وسائد وكراسي وأقمشة.. وكل ذلك لأننا وجدنا صندوقا خشبيا مهترئا، خلف أحد الكراسي بالصدفة.. فتخيلنا أن بداخله كنزا.. وقررنا أن نلعب اللعبة. الخيال الخصب لدى الأطفال، كما تعلمون، يعطيهم قدرة خارقة على تحويل أي شيء إلى لعبة، إلا أنني لم أكن أعرف أن بعض المغامرات تتطلب دفع الثمن.
وزعت الأدوار على "القرصانات".. أقصد الصديقات.. حتى إخوتي الأولاد كانوا يلعبون معنا.. دورهم كان حراسة الكنز من القراصنة. انقسمنا فريقين يتسابقان للوصول للكنز أولا.. جائزة الفوز ستكون عبارة عن "آيس كريم من ثلاجة أمي" في الكبينة.. حملنا السيوف البلاستيكية وتخطينا العقبات والحواجز التي وضعناها قصدا في طريقنا.. صنعنا طريقا ملغما من الوسائد لنعبر عليه قفزا وزحفا.. وبعد جهد جهيد نجح فريقنا المكون من 3 بنات في الوصول إلى الصندوق الخشبي.. توسدنا الرمل على الشاطئ والقلوب تتسارع في نبضاتها.. التركيز الكبير كان على الصندوق.. وبما أنني "القرصانة" صاحبة الفكرة.. فتحت الغطاء الخشبي أولا، متوقعة أن أجد جواهر أو أصدافا أو حتى قطعا نقدية.. لكن الذي وجدته كان... حذاء والدتي القديم وسلسلة مفاتيح علاها الصدأ! مجرد أشياء بائسة.. لكنها وفق شروط اللعبة لن تحرمنا من تناول الآيس كريم.
الانتقال من خيبة اكتشاف ما بداخل الصندوق وصولا إلى "السعي وراء الأحلام".. يكون سريعا في الطفولة. هي لحظات الدروس الأولى بالنسبة لنا في الحياة.. عندما نبدأ في اكتشاف الكنوز الذي نسعى إليها، وحقيقية أنها لن تكون دائما كما تتوقع.. سقف التوقعات مخادع حتى عندما تساندك الاختيارات.. فنحن غالبا نركض خلف أهداف براقة، فقط لنكتشف في النهاية أنها مجرد أشياء بلا قيمة ولا تعني شيئا.
تتكرر تلك الصناديق الفارغة في حياتنا بأشكال مختلفة، حتى نتقن فن "التوقع والخيبة"... ومع مرور الوقت نبدأ في ملاحظة أن الثمن الذي ندفعه مقابل الكنوز المتوقعة.. لا يكون فقط في الجهد والوقت وقلة النوم، بل يمتد إلى تضحيات أكبر وأكبر.. مجرد التفكير في الثمن يعني أننا يجب أن نقيم الجدوى والنتائج المحتملة، فالسعي وراء الأحلام يتطلب اتخاذ قرارات قد تؤثر أحيانا على الصحة الجسدية والنفسية. الثمن الذي ندفعه مقابل الاكتشاف يشمل أيضا بناء وتدمير جزء من الذات.. وكأن بعضنا يذهب فلا يعود أبدا.
إن القدرة على تحقيق الأحلام الشخصية يعتمد بشكل كبير على مجموعة من العوامل من حولنا.. الدعم أولها، ثم البيئة الاجتماعية والاقتصادية، وامتلاك القدرة على التكيف مع التحديات.
ويؤثر الضغط النفسي الناتج عن محاولة تحقيق الأحلام على الأداء المعرفي والعاطفي للفرد، مما قد ينتج عنه في بعض الأحيان، قرارات غير مدروسة أو نتائج غير متوقعة. قرأت مرة أن الإنسان يقضي حوالي 90 ألف ساعة في العمل طوال حياته، وأن 80% من الأشخاص يمرون بتجارب فاشلة قبل أن يصلوا إلى تحقيق أهدافهم، ليكتشف الكثير منهم أن ما كانوا يعتقدون أنه ذو قيمة.. قد لا يكون قيما أبدأ.
ما أريد قوله إن تقبل الخيبة وتحويلها إلى فرص يتطلب تبني الفشل على أنه جزء طبيعي من الرحلة لتقليل الصدمة وتخفيف الأثر، وأن النجاح هو سلسلة من المحاولات للتعلم من الأخطاء، وتجنب الهفوات في المستقبل. كما يصبح من الضروري أن نتعلم من أخطائنا.. فتتنامى الثقة في القرارات التي نتخذها.. لتأتي بعدها مرحلة القدرة على البحث عن الفرص في عمق الأزمات.. لأنها يمكن أن تكون بداية لتحولات إيجابية جديدة في عمر الإنسان. وبعد كل اكتشاف لا بد من الاحتفاء بالنجاحات الصغيرة لتحفيز الاستمرار.. حتى لو كانت على شاكلة "الآيس كريم".
صندوق الكنز الخشبي كان البداية لفهم أكبر... لن نموت من أجل صندوق.. لأن الخيبات قد تجيب على تساؤلات جوهرية في حياتنا.. يا ترى ما الذي يستحق أن نركض من أجله؟ وكيف نتجاوز ونتخطى.. من سيكون معنا في الطريق.. وما الذي سنتعلمه وما الذي نبحث عنه فعليا؟ نحن في رحلة اكتشاف دائمة ما دامت الأنفاس.. والكنز الفعلي هو الرحلة نفسها، الرحلة المليئة بالتحديات والمواقف الطريفة، مثل حذاء أمي القديم في صندوق الكنز.
smileofswords@
"جزيرة الكنز"؛ الرواية التي قضينا جزءا من طفولتنا ونحن نتابع مسلسلها الكرتوني بشغف، دون أن نعي حقيقة أن القراصنة ليسوا هم الأبطال الذين يجلبون الذهب، بل أولئك المساكين الذين يضيعون في البحر وهم يبحثون عن شيء قد لا يكون موجودا أصلا.
تذكرت حين كنت في العاشرة من عمري، أن أجمل متع الطفولة كانت في لعب لعبة الكنز حول الشاليه البحري أو كبينة البحر في شاطئ جدة. "كبائن البنوي" كانت أقدم وأجمل الأماكن في أبحر.. كانت تحمل من المعطيات ما يحفزنا أنا وأخوتي وأصدقاءنا على بدء مغامرة افتراضية للبحث عن كنز مزعوم.. مقلدين أبطال جزيرة الكنز.. رسمنا خريطة وحفرنا بركة ماء صغيرة بالقرب من الشاطئ، غرزنا الأعواد الجافة والأصداف في الرمال المبللة، استخدمنا كل ما هو متاح من وسائد وكراسي وأقمشة.. وكل ذلك لأننا وجدنا صندوقا خشبيا مهترئا، خلف أحد الكراسي بالصدفة.. فتخيلنا أن بداخله كنزا.. وقررنا أن نلعب اللعبة. الخيال الخصب لدى الأطفال، كما تعلمون، يعطيهم قدرة خارقة على تحويل أي شيء إلى لعبة، إلا أنني لم أكن أعرف أن بعض المغامرات تتطلب دفع الثمن.
وزعت الأدوار على "القرصانات".. أقصد الصديقات.. حتى إخوتي الأولاد كانوا يلعبون معنا.. دورهم كان حراسة الكنز من القراصنة. انقسمنا فريقين يتسابقان للوصول للكنز أولا.. جائزة الفوز ستكون عبارة عن "آيس كريم من ثلاجة أمي" في الكبينة.. حملنا السيوف البلاستيكية وتخطينا العقبات والحواجز التي وضعناها قصدا في طريقنا.. صنعنا طريقا ملغما من الوسائد لنعبر عليه قفزا وزحفا.. وبعد جهد جهيد نجح فريقنا المكون من 3 بنات في الوصول إلى الصندوق الخشبي.. توسدنا الرمل على الشاطئ والقلوب تتسارع في نبضاتها.. التركيز الكبير كان على الصندوق.. وبما أنني "القرصانة" صاحبة الفكرة.. فتحت الغطاء الخشبي أولا، متوقعة أن أجد جواهر أو أصدافا أو حتى قطعا نقدية.. لكن الذي وجدته كان... حذاء والدتي القديم وسلسلة مفاتيح علاها الصدأ! مجرد أشياء بائسة.. لكنها وفق شروط اللعبة لن تحرمنا من تناول الآيس كريم.
الانتقال من خيبة اكتشاف ما بداخل الصندوق وصولا إلى "السعي وراء الأحلام".. يكون سريعا في الطفولة. هي لحظات الدروس الأولى بالنسبة لنا في الحياة.. عندما نبدأ في اكتشاف الكنوز الذي نسعى إليها، وحقيقية أنها لن تكون دائما كما تتوقع.. سقف التوقعات مخادع حتى عندما تساندك الاختيارات.. فنحن غالبا نركض خلف أهداف براقة، فقط لنكتشف في النهاية أنها مجرد أشياء بلا قيمة ولا تعني شيئا.
تتكرر تلك الصناديق الفارغة في حياتنا بأشكال مختلفة، حتى نتقن فن "التوقع والخيبة"... ومع مرور الوقت نبدأ في ملاحظة أن الثمن الذي ندفعه مقابل الكنوز المتوقعة.. لا يكون فقط في الجهد والوقت وقلة النوم، بل يمتد إلى تضحيات أكبر وأكبر.. مجرد التفكير في الثمن يعني أننا يجب أن نقيم الجدوى والنتائج المحتملة، فالسعي وراء الأحلام يتطلب اتخاذ قرارات قد تؤثر أحيانا على الصحة الجسدية والنفسية. الثمن الذي ندفعه مقابل الاكتشاف يشمل أيضا بناء وتدمير جزء من الذات.. وكأن بعضنا يذهب فلا يعود أبدا.
إن القدرة على تحقيق الأحلام الشخصية يعتمد بشكل كبير على مجموعة من العوامل من حولنا.. الدعم أولها، ثم البيئة الاجتماعية والاقتصادية، وامتلاك القدرة على التكيف مع التحديات.
ويؤثر الضغط النفسي الناتج عن محاولة تحقيق الأحلام على الأداء المعرفي والعاطفي للفرد، مما قد ينتج عنه في بعض الأحيان، قرارات غير مدروسة أو نتائج غير متوقعة. قرأت مرة أن الإنسان يقضي حوالي 90 ألف ساعة في العمل طوال حياته، وأن 80% من الأشخاص يمرون بتجارب فاشلة قبل أن يصلوا إلى تحقيق أهدافهم، ليكتشف الكثير منهم أن ما كانوا يعتقدون أنه ذو قيمة.. قد لا يكون قيما أبدأ.
ما أريد قوله إن تقبل الخيبة وتحويلها إلى فرص يتطلب تبني الفشل على أنه جزء طبيعي من الرحلة لتقليل الصدمة وتخفيف الأثر، وأن النجاح هو سلسلة من المحاولات للتعلم من الأخطاء، وتجنب الهفوات في المستقبل. كما يصبح من الضروري أن نتعلم من أخطائنا.. فتتنامى الثقة في القرارات التي نتخذها.. لتأتي بعدها مرحلة القدرة على البحث عن الفرص في عمق الأزمات.. لأنها يمكن أن تكون بداية لتحولات إيجابية جديدة في عمر الإنسان. وبعد كل اكتشاف لا بد من الاحتفاء بالنجاحات الصغيرة لتحفيز الاستمرار.. حتى لو كانت على شاكلة "الآيس كريم".
صندوق الكنز الخشبي كان البداية لفهم أكبر... لن نموت من أجل صندوق.. لأن الخيبات قد تجيب على تساؤلات جوهرية في حياتنا.. يا ترى ما الذي يستحق أن نركض من أجله؟ وكيف نتجاوز ونتخطى.. من سيكون معنا في الطريق.. وما الذي سنتعلمه وما الذي نبحث عنه فعليا؟ نحن في رحلة اكتشاف دائمة ما دامت الأنفاس.. والكنز الفعلي هو الرحلة نفسها، الرحلة المليئة بالتحديات والمواقف الطريفة، مثل حذاء أمي القديم في صندوق الكنز.
smileofswords@