شاهر النهاري

عصر الاغتيالات الباطنية

الاثنين - 05 أغسطس 2024

Mon - 05 Aug 2024

بينما كان العالم يتوقع حدوث حرب عالمية شاملة في شرقنا الأوسط، وجدنا الموازين تنقلب، والمواجهات تتحول إلى عمليات مناظير واستئصال عن بعد واغتيالات متخصصة ودون جروح ظاهرة.

حروب توجيه دقيق للإشعاعات والمسابير، متعددة الأغراض لتدمير عين الورم قبل استفحاله، بقوة وتحكم وتركيز وتهديف من خلال شاشات تتصل بعين المعالج، مدعومة بقرار وأقمار صناعية مدهشة في التحكم وتتبع نفوذ المقذوف إلى رأس الهدف، بصفر أضرار جانبية.

حروب علوم حديثة جمعت أعاجيب الاتصالات والذكاء الاصطناعي، ومكنت المتفجرات من تلافي الدروع البشرية، وضمن خطة ينفذها جراح يؤكد لأهل المريض أن الورم قد استؤصل بطريقة لم يشعر بها المريض، الملتهي برسم خطط تحركات ومقاومة ودعم وولاءات عمياء، محفزة بوعود حماية وفداء بالروح والدم.

إجرام مستحدث وتقنية دقيقة تستعصي على جحافل الجيوش، وعلى اجتياحات الانتقام، ورمي بالصواريخ والمسيرات، يتم إطلاقها للتشفي، وإطفاء نيران قهر المتظاهرين والمحتجين والمغسولة عقولهم على مواقع التواصل يشتمون ويتوعدون كل من ليس له علاقة بالأسباب، "فش خلق"، في غير مكانها، ولا مفهومها المؤصل لعلاج غير مرتجى.

حروب الاغتيالات الأخيرة في شرقنا الأوسط غيرت نمط اللعب وقواعد المواجهة والاشتباك، وميعت الحدود، وصنعت حولنا عوالم ألعاب ليست افتراضية بالكامل، أعجب من طموحات جراح الذكاء الاصطناعي يجري عمليات الاستئصال وهو على بعد آلاف الكيلومترات، ما يرعب كل سرطان، ويزرع بين قيادات القش الشك، ومهما موهت وعمقت الخنادق، وضاعفت السرية، وخادعت مطامع الجواسيس، وأجهزة الرصد والتنصت ما يجعل الساسة الساعين بالخير أو بمنتهى المكر والشرور، أن يفكروا ألف مرة في صلابة وسائل احترازاتهم، فلا بد من مجاراة التقنية، ليس فقط بالدبابات والطائرات والبوارج، ولكن بالقدرة على التلاعب والتمويه والتضليل والوصول.

حروب الاغتيالات نسفت نبل وشرف الحروب القديمة، فالمكر أصبح من يحكم المواجهات، وكل غادر مبتدئ يحاول تضليل الغدار الأكبر، والاحتراز من دواهي السواهي.

الاغتيالات كانت تتم بالخفاء، ولكنها اليوم تفرض نفسها عنوة، وتصف طريقها بالنصرة والشرف والكرامة، والنظام العالمي لا يملك إيقافها بالقانون.

حروب اغتيالات تغيرت فيها حتى الولاءات الداخلية، وتعاظم الخونة، ومن يشحذون ويستغلون، ومن يستضيفون الضحية، لتقديمها ثمنا لصفقة أو مطمع، ولكنها تظل سياسة مكشوفة بعراك الخوف "فك وأنا أفك، وأعطني هذه، وخذ تلك، ولا داعي أن نقطع على بعضنا" ثم بتقديم ضحية عاجزة، بدلها ألوف الضحايا يجدولون حطبا لعمليات "الباربكيو" القادمة.

كل نظم الحروب والاشتباك النبيلة تهدمت، وكل مواثيق هيئة الأمم المتحدة إلى زوال، فالعالم بكامله ينجر لجولات عظيمة من حروب الاغتيالات المسبارية، بقوانين يفرضها القوى المتقدم في التصنيع الحربي والتقنية والخبث.

موازين القوى اختلفت، ولم يعد الراكب أفضل من الراجل، والمدجج بالرادارات والصواريخ والحراس والمتاريس والحدود والدروع لن ينجح في حماية نفسه من مراهق يلعب خلف الشاشات، مستمتعا بمشروب طاقة، ومكهرب بموسيقى الرقص الالكترونية الصاخبة.

أهلا بعموم بشرية عصرنا في أطوار الحرب العالمية الرابعة، ومن يعش نيسان يرتقي قمم الأحزان، ولعل الساسة أن يفطنوا للواقع، فالحرب والسلم لم تعد مجرد تكديس جيوش وأحلاف ومعاهدات، بقدر ما تحتويه من مؤامرات وتجهيزات وامتلاك مناظير ومسابير تخرم العقول، وتستمر في تطوير مواجهتها.

shaheralnahari@