علي قطب

الإبداع صيغة ثنائية في "النقش على سطوح سائلة" لمريم الزرعوني

الأحد - 04 أغسطس 2024

Sun - 04 Aug 2024

تحتاج الكتابة في القضايا الثقافية إلى مجموعة عناصر مترابطة، يستطيع من خلالها الناقد مناقشة الأمور الحيوية التي تشغل المرجعية الفكرية لمجتمعه ولغته وإنسانيته، في كتابها "النقش على سطوح سائلة.. مقالات في الثقافة والأدب" الصادر عن دار اللوهة للنشر 2024، تواجه مريم الزرعوني محيطها الفكري بقراءة تعتمد على الثنائيات، هذه الثنائيات تنطلق من الأنا والآخر، والذات والموضوع، والمحلية والعالمية، والحقيقة والمجاز، والعاطفية والعقلانية.

والبنية الثنائية عند مريم الزرعوني تتخذ من الحب قيمة محورية تبني عليها الكاتبة كثيرا من مفاهيم الإبداع والتطور والتحقق الوجودي الذي لا يمكن أن يؤسس دعامة راسخة إلا بمحبة توجه مقصدية الأفعال وتحدد أشكال الإبداع التي تسعى الذات للتجلي من خلالها.

تشغل علاقة الشرق والغرب مساحة مهمة في الكتاب، بل تعد الإطار الذي يتضمن القضايا كلها التي أثارتها الكاتبة في المقالات المتنوعة، فالمقال الأول يتعرض للاستشراق موضحا أثر الثقافة العربية في الفكر الغربي، بخاصة طوق الحمامة لابن حزم، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وألف ليلة وليلة التي ترجمها أنطوان جلان؛ فأثرت حكاياتها في السرد العالمي، بل أثرت في المسرح أيضا، تدعو الكاتبة لدراسة التراث العربي وتحديد علاقته بالثقافة الإنسانية مستعيدة عمل طه حسين في دراسة أبي العلاء وابن خلدون، وستثبت الدراسات الجادة لاستقبال التراث العربي في الغرب كيف أن الحضارة الإنسانية متعددة الروافد، وليست حكرا على رؤية بعينها، إنما هي نهر له منابعه الثرية المتدفقة في جريانه وحيويته، وتختم مريم الزرعوني كتابها بمقال عن "الاستشراق... مفهومه وامتداداته"، مناقشة مفهوم الاستشراق بوصفه موجها من العقلية الغربية للدراسات العربية، وكيف أن الشرق العربي يعد مهنة يقصدها الدارس الغربي، كما يرى إدوارد سعيد في كتاب "الاستشراق". وثنائية الشرق والغرب لا تتخذ عند الزرعوني نمط المواجهة، إنما تنحو إلى التفاعل للوصول إلى التقارب عن طريق الفهم، وهذه الرؤية تسود مقالات الكتاب، فتتناول الكاتبة علاقة سوزان طه حسين بزوجها من خلال مفهوم التواصل المحب الذي يدعم علاقة الصداقة بين الشرق والغرب من ناحية، والمذكر والمؤنث من ناحية أخرى، فتقدم من خلال هذه المعالجة نموذجا للانصهار الحضاري الواضح كما يتمثل في نموذج حيوي واقعي، حقق وجوده في الثقافة العربية والغربية على حد سواء.

كما تعالج مفهوم التواصل عبر الحضارات بين المذكر والمؤنث من خلال مراسلات مصطفى كامل وجوليت آدم، التي ترى فيها مريم عرابة للزعيم الذي أيقظ مصر، وفي إطار الرؤية القائمة على حوار الثنائيات تتناول الكاتبة ثنائية الحياة والموت من خلال الإبداع الذي يعد نوعا من المقاومة وأسلوبا في تحقيق الذات، مثلما حدث في ألف ليلة، وتقارن بين روح السرد في ألف ليلة، والسرد الصامت في لوحة العشاء الأخير لدافنشي مواصلة تأسيسها لمفهوم الدرس الثقافي المقارن عبر الأشكال التعبيرية، ودوره في منح الإنسان العصري صيغة للتفاعل مع الوجود؛ كي يثبت ذاته، يلاحظ القارئ تلك اللمسة الوجودية الحانية التي تتناول بها الكاتبة موضوعاتها مهما كانت علمية هذه المواضيع وجديتها وحيويتها، مثل قضية اللفظ والمعنى أو الشعر والنقد، أو رمز الحيوان في الثقافات الإنسانية، أو علاقات التحول بين الطبيعة والثقافة، أو أزمة الحداثة بين الانخراط والمقاومة، فهذه المواضيع الجادة الرصينة لا تخلو من نزعة ذاتية في المعالجة بالإضافة إلى منطقية التحليل والوصول إلى نتيجة بالقراءة المنطقية.

والكتاب بشكل عام ينطلق في قراءاته من قيمة الحب مناقشا إياها في تجليات العلاقات الإنسانية أيا كانت مواضيعها، بالإضافة إلى حضور النزعة النسوية بدرجة فيها من الشفافية ما يجعلها عنصرا مانحا للفكر، وليست موجهة للنزال، ولا يقف منهج الزرعوني عند تحليل القضايا في الكتب، إنما تتجاوز ذلك إلى اللوحات الفنية والأعمال الموسيقية والدراما التلفزيونية، وتستطيع أن تلتمس في كتب التراث قيما حضارية عصرية مثل قراءاتها لرسالة "الحنين إلى الأوطان" للجاحظ، التي تناقش من خلالها قضية الهجرة، وأرى أن عنوان الكتاب "النقش على سطوح سائلة" يعد عتبة تظلم محتويات الكتاب مع أنها عبارة شاعرية؛ لأن الكتاب فيه معالجات منطقية لمشكلات حضارية وواقعية في حياتنا الراهنة.