محي عبدالله القرني

مخلوقات للتأمل!

الأحد - 28 يوليو 2024

Sun - 28 Jul 2024

تصفح العقول، وإمعان النظر في غرائب النفس البشرية، وفتح قنوات التأمل لما وراء الحس، وقراءة مؤشرات الارتياح من عدمه، والغوص داخل الهالات المحيطة بالأجساد بحذر، ومراقبة حالات الانفعالات المتأرجحة ما بين الرفض والقبول بالواقع، وهز جذع الأقنعة المتلونة لترى عجائب الاحتراق الداخلي للوصول إلى ما تخفيه معامل الذات.

الجري في فضاءات التواصل الواعي داخل أروقة المجتمعات متعددة الثقافات وطرح الأسئلة المفتوحة مع توطين ثقافة الإنصات وتحسس مدى متانة الأوتار التي تعزف عليها هواجيس الذات.

تقترب بكل جوارحك من هذا الإعجاز الرباني الكامن في دواخلنا.

الإنسان عجيب وغريب فهو آية من آيات الله وكون بحد ذاته داخل الكون الخارجي فلا يقل تعقيدا عنه... يقول تعالى {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات:21].

الجسد والنفس وما بداخلهما من عوالم معقدة موضع إجلال وتقدير وإيمان تام لله جل في علاه.

الانفصال عن الذات وتأمل هذا المخلوق وهو يسعى جاهدا ويحث الخطى وسحائب الأفكار تستعمر عقله معتقدا ومؤمنا بأنه الوحيد الذي يعاني ضغوطات الحياة ومشاكلها التي أضعفت كاهليه على مر السنين، هناك من أصبح أسير فكره الذي عمه السواد تجاه الآخرين فهو لا يرى إلا وحوشا شرسة تتجول على الأقدام حوله من أجل افتراسه أو استغلاله أو خداعه، وهناك من أصبح يعد الحصى وأوراق الشجر ونسي نفسه وأهله على أمل الثراء، ناهيك عن خطاب الشهرة إما بالكرم المزعوم تحت أضواء الإعلام أو باستئجار الألسنة المشحوذة بالمدح الكاذب فإن أعطوا المال على زبد القول رضوا وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون، وتوجيه النظر بتأن نحو عامل خير يرجي الدنيا وآخر يلبس جلباب الدين من أجل مصالح عالقة في ذهنه، وجالب القيد لنفسه ولمستقبل أيامه بإيمانه الخالص بأنه أحد ضحايا الحسد والعين والسحر وهو إلى العلاج المعرفي السلوكي والطب النفسي أقرب، ومن تحت ظل الاستعطاف تسمع صدى أنين الشكاء وهو يندب الحظ والظروف وإن كان في رغد من العيش ، مؤلم حقا سماع أنين من يتقلب على جمر الوجع العضوي ذهني المصدر وهو لا يدرك ذلك.

بالتجوال الواعي ترى حمم الكره والبغض وهي تنساب من أعلى قمم الأوجه ومن على أطراف الألسنة، وتلاحظ بساتين الرضا من نوافذ أخرى.

كل ذلك نتائج عوامل فكرية مزمنة، الإنسان وحده من وضع لبناتها بغير وعيه وعلى مر السنين وتكرارها علت وارتفعت حتى غطت معالم شخصيته.

يقول ابن القيم (مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإِنها توجب التصورات والتصورات تدعو إلى الإيرادات والإيرادات تقتضي وقوع الفعل وكثرة تكراره تعطي العدة فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار وفسادها بفسادها).

يعتلي الصيني لاوتسو منبر الفلسفة متحدثا (راقب أفكارك؛ لأنها ستصبح كلمات، راقب كلماتك لأنها ستصبح أفعالا، راقب أفعالك، لأنها ستتحول إلى عادات، راقب عاداتك، لأنها تكون شخصيتك، راقب شخصيتك؛ لأنها ستحدد مصيرك).

في هذا البحر الداخلي المتلاطم تبقى عاجزا عن تفسير وتحليل كل ما يحدث نتيجة مد وجزر المشاعر والأفكار وطوفان الظروف، لكن يبقى التأمل والتفكر والتدبر وتشغيل آلة العقل تجاه هذه القدرة الإلهية (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) نبراس المؤمن الدائم نحو عظمة الخالق.

mhi43@