زيد الفضيل

فيلا جنيفر

السبت - 22 يونيو 2024

Sat - 22 Jun 2024


لوهلة وأنت تدلف الدار تستشعر روحا لطيفة ترحب بك بكل هدوء وسلام، ويستقبلك صاحب الدار بوجه بشوش بكل حفاوة وتقدير، فتتكثف في داخلك حالة من السكينة تبعد عنك كل وساوس الاغتراب، لتنطلق روحك، وينساب جسدك في أفانين المكان ودون أن تشعر بأي حرج، فتتجول في ردهاته يمنة ويسرة، وتقف بكل وقار أمام لطائف فنية تناثرت هنا وهناك، ولا يسعك إلا أن تتوقف أمامها لتتأملها بسكون العارفين برهة من الوقت.

إنها دارة جنيفر بضاحية مأدبا بالعاصمة الأردنية عمان، تلك الدار التي شيد مدماكها روحان متحابان في زمن بات الحب الحقيقي عزيزا، وأصبح الوفاء له وبخاصة من بعد غياب أحد الطرفين نادرا، لكنه متحقق في هذه الدار التي جمعت بين حبيبين مناضلين استمرا على محبتهما ووفائهما حتى بعد مغادرة أحدهما إلى جوار ربه، فلم تغب الحبيبة عن ذهن زوجها، ولعلها ترعاه وهي في الملكوت الأعلى. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

ذلك كان بعض من حكاية العين الدكتور مصطفى الحمارنة السياسي الأردني، والمؤرخ العربي، والإنسان المناضل الذي اجتمع بمحبوبته السيدة جنيفر في أحد ساحات النضال قبل عقود طويلة، لتتحد روحاهما وترتبط برباط مقدس لم ينفك حتى بعد مغادرة زوجته إلى الرفيق الأعلى منذ عقد من الزمان؛ فهو دائم الذكر لها كلما سنحت الفرصة، وكلما انتقل ببصره يمنة ويسرة، فهنا وقفا يستقبلان، وهنا ودعا، وهناك جرى الحديث حول كذا، وفي هذه الزاوية من البيت ولدت فكرة عمل تم تنفيذها، وهكذا يأسرك بحديثه عنها دون أن يستأثر بشيء دونها، ولعمري فذلك هو الوفاء بعينه، على أن وفاءه لم يقف عند حدود الذكريات، بل استمر ليرعى ما كانت ترعاه بالرغم من تكلفة ذلك ماليا عليه، لكنها المروءة العربية التي وعدت فأوفت.

في لحظة من لحظات التدفق الكلامي وأنا أصغي لحديثه المتقن، والذي امتزج بحكمة السنين وعمق التجربة، فأراه وهو يرسم خارطة واسعة لمختلف قضايا المنطقة والتي عادة ما تمتزج بالمشاعر إن سلبا أو إيجابا، أخذت أسأل نفسي: ولماذا يبقى مثل هؤلاء بعيدا عن سياق الحدث؟ بل، ولماذا لم يتم توثيق تجربتهم في حلقات نقاش دقيقة يحضرها المهتمون؟ إذ ليس من سمع كمن رأى، وليس من قرأ كمن عايش وشارك في ثنايا الحدث.

إنها إحدى وظائف مراكز الفكر الغائبة عن ردهاتنا حتى اليوم، وهي السياق العلمي لتأسيس رأي استراتيجي إزاء مختلف القضايا على الصعيد الداخلي والخارجي لأي دولة، وكم أتوق لأن تنبري السعودية بالشراكة مع الأردن لتأسيس مجلس حكماء يجمع شتات منتدى الفكر العربي بمؤسسة الفكر العربي ابتداء، ويكون بمثابة المخزن لكثير من الأفكار والذهنيات التي جمعت في ثناياها رصيدا واسعا من التجربة الثرية المتنوعة،
التي يمكن الاستفادة منها وفق آلية علمية منهجية وإجرائية يعود نفعها على الأمة العربية، لاسيما وأننا وفقا لرؤية سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان نطمع لأن نكون كدولة سعودية وأمة عربية قادة لمنظومة الشرق الأوسط الجديد.

هكذا تراءى لي الأمر وأنا أصغي لحديث مضيفي الدكتور الحمارنة، الذي أبهرني بوفائه لغائب، وأبهرني بمروءته العربية في التزامه بوعد يقضي برعاية أنفس بذلت جهدها في رعاية حبيبته حال مرضها، وكم رأيته مهموما بأمرهم من منطلق إنساني بحت، وكأنهم ينتمون إليه نسبا وعرقا.

في حينه أدركت أن السمو الصادق لا يكون على حقيقته إلا حين يتسامى المرء عن غرائزه ليكون إنسانا، وتلك هي خصيصة دعوة الأنبياء جميعا، وهو ما تَمثله العين مصطفى الحمارنة واقعا وسلوكا، فطوبى له حاضرا وغائبا، وبورك في الأوطان التي تحتفي بهذه النماذج إن أدركت قيمتها وجوهر وفائها الثابت.



zash113@