النعمة المنسية
الاثنين - 10 يونيو 2024
Mon - 10 Jun 2024
هناك في ذلك المكان المقدس؛ بيت الله الحرام، ونحن نطوف بين مئات الآلاف من المسلمين حول الكعبة المشرفة تتهادى إلى أسماعنا الآيات والأدعية والأذكار النبوية التي يرددها المعتمرون من الجاليات الإسلامية غير العربية بصورة جماعية وراء مطوفيهم؛ فيأخذنا الموقف بكل تفصيلاته التي تتصدرها اللغة التي نسمعها منهم؛ اللغة العربية التي يحاولون جاهدين أن ينطقوها نطقا صحيحا، ويخرجوا حروفها من مخارجها الصحيحة فلا يستطيعون؛ فحرف العين مثلا نسمعه ألفا في «العفو والعافية والمعافاة»، وحرف الحاء نسمعه هاء في «حسنة»، وحرف الخاء وحرف القاف وغيرها من الحروف والكلمات، وهم يجاهدون من أجل ترديد ما يقوله المطوف، وتتفاقم المشكلة حين يكون المطوف من الجالية نفسها ولا يحسن إخراج تلك الحروف من مخارجها الصحيحة، وهذا ما رأيناه ونراه بأم أعيننا، وقد يكون هذا أمرا مألوفا لدى من لم تكن لغتهم الأم أو لغتهم الأولى هي العربية، لكن مالا يجب أن يكون مألوفا وهو محزن حقيقة أن يكون ما يردده المعتمرون في مناسكهم غير مفهوم لهم، فلا شيء يمكن أن يجعل الإنسان يردد كلاما لا يفهمه إلا أن يكون مرتبطا بعقيدته التي يحبها ويرتبط بها ارتباطا روحيا مقدسا وترديده واجب تمليه عليه تلك العقيدة، وهذا ما يحدث، ولكن أين استشعار المعنى والإحساس بالروحانية من هذا وهم لا يفهمون المعنى؟! وفي المقابل نجد أنفسنا - نحن العرب - في نعمة عظيمة ونحن نتحدث العربية، ونخرج أصواتها من مخارجها الصحيحة، وننطق كلماتها صحيحة، ونفهم ما نسمع وما نقول، كم نحن في نعمة عظيمة ونحن لا نحتاج إلى مطوف نردد الأدعية والآيات والأحاديث بعده! كم نحن في نعمة عظيمة ونحن نفهم ونستشعر معاني الآيات والأحاديث والأوراد والأذكار والأدعية النبوية!
إنها بكل أسف النعمة المنسية التي قد لا نراها ولا ندركها إلا حين نتفكر في ذلك الموقف المهيب لأناس مسلمين يتعبدون الله بما يسمعون من العربية التي لا يتقنونها أصواتا وكلاما وفهما؛ ولكن لأنها - فقط - جزء من مناسكهم، واكتمالهم الروحي.
إن العربية جوهرة ملكنا الله زمامها - نحن العرب -؛ فماذا فعلنا بها؟ وهل شكرنا الله عليها؟ هل نشرناها على الأقل بين المسلمين؟ وكم عدد العمالة المسلمة التي جاءت إلينا ثم غادرت وهي لا تعرف العربية؛ إما لأننا هجرنا العربية وتحدثنا معهم بالإنجليزية؛ لأنها اللغة التي يجيدونها، أو لأننا نريد أن نقوي لغتنا ولغة أبنائنا الإنجليزية، أو لأننا نتباهى بالحديث بها، أو لأننا لا نريدهم أن يفهموا ما نقول ولاسيما عمال المنازل، - وإما لأننا شوهنا العربية وعلمناهم لغة ممسوخة هجينا أو شبه هجين ليسهل علينا التفاهم معهم في غفلة عن أن تعليمهم العربية واجب علينا قصرنا فيه، وحق لهم حرمناهم منه، وحتى إن حاولنا الحديث معهم بالعربية السليمة، هل يكفي ذلك؟ هل علمناهم القراءة والكتابة؟ هل علمناهم قراءة القرآن؟ والحديث؟ هل علمناهم قراءة تراثنا العظيم؟ هل زودناهم بالمفاتيح المعنوية والمادية التي تمكنهم من ذلك؟ أو حتى تغرس حب العربية في نفوسهم وتدفعهم إلى الاستمرار في السعي إلى تعلمها؟
لا نهدف في هذا المقال إلى التعميم أبدا؛ فهناك تجارب فريدة، لكنني أزعم أنها قليلة إن لم تكن نادرة بالقياس إلى عدد العرب والمسلمين، كما يمكن الزعم بأن التقصير في هذا الجانب هو ما غلب علينا وخاصة الأفراد منا؛ بل إن بعضنا يدعو إلى تعليم اللهجات الدارجة تعليما ممنهجا، ومع احترام اللهجات والإقرار بأنها مستوى من مستويات العربية إلا أنها تختلف من قرية إلى قرية، ومن مدينة إلى مدينة، ومن منطقة إلى منطقة، ومن دولة إلى دولة؛ فإذا علمناهم لهجة المنطقة (س) فلن يفهموا لهجة المنطقة (ص) إذا ذهبوا إليها أو تحدثوا مع أفرادها، ويقاس على هذا، والأهم أن اللغة التي تجمع العرب ليست أي لهجة؛ بل هي اللغة العربية الفصحى أو لنقل الفصيحة، والأكثر أهمية أننا حين نعلم اللهجات لأي سبب أو غرض فنحن نحرم المتعلم من مفاتيح التمكن من قراءة القرآن وفهمه إن كان مسلما، ومن إمكانية البحث والاطلاع إن كان غير مسلم، صحيح أن المستهدف الأول هو المسلم الذي يحتاج اللغة العربية حاجة حياة، ولكن تعليم العربية للعالم واجب عالمي؛ لأنها لغة القرآن الكتاب العالمي الذي أمرنا الله بتبليغه، وتقصيرنا في تعليمها جناية على العالم، وحرمان للبشرية من القدرة على قراءته والوقوف على ما يفتح الله به من أسرار بيانه وإعجازه، ولا نتحدث هنا عن التفسير والترجمة وإنما نتحدث عن الإعجاز القرآني الذي قد لا يدركه إلا من قرأه بالعربية وتأمل أصواته، وكلماته، وبناه، وتراكيبه، وأساليبه المعجزة التي لا تستطيع الترجمة ولا التفسير إيفاءها حقها من الإعجاز والبيان مهما بلغ إتقانها.
صحن المطاف فرصة لمن لا يشعر بهذه النعمة المنسية التي يفرط فيها بعضنا، وتكفي زيارة متأملة وملاحظة دقيقة وإنصات مستشعر ولاسيما في المواسم العظيمة التي يكتظ فيها الصحن بالمسلمين من جميع أنحاء العالم.
صحن المطاف فرصة لإحياء الغيرة في نفوسنا على لغة القرآن، واستشعار النعمة، وإعطائها حقها من الشكر؛ بتعلمها حق التعلم وإتقانها حق الإتقان، وتعليمها، ونشرها، والدعاية لها وإيصالها إلى أقصى بقاع الأرض؛ شكرا لله وامتنانا؛ لأنه شرفنا بها، وتحملا للمسؤولية وأداء للواجب الذي وقع على عاتقنا شئنا أم أبينا.
صحن المطاف قد يكون حجة علينا حين نقصر في حق لغتنا العربية لغة القرآن الكريم ولغة الحديث النبوي الشريف ثم لغة وطننا الحبيب؛ مهد الإسلام وموطن الرسالة، وأرض الحرمين ومهوى الأفئدة، والبقعة التي يقصدها ما يقارب مليار شخص مسلم في العالم ولو لمرة واحدة في حياته، وسيكون حجة علينا إن قصرنا في حق إخواننا المسلمين من غير العرب الذين يحتاجون إلى جهودنا الفردية أيضا ابتداء بأن نكون قدوة لهم، ومرورا ببذل كل ما نستطيع من أجل تمكينهم من تعلم اللغة العربية، وانتهاء إلى التعاون مع الجهات العربية والإسلامية التي اضطلعت بخدمة اللغة العربية ونشرها وتمكينها في دول العالم أجمع، وعلى رأسها مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية الذي يترجم حرص المملكة العربية السعودية على الحفاظ على النعمة التي شرفها الله بها، إضافة إلى الجهود الأخرى المتضافرة معه؛ الداخلية والخارجية، الفردية والجماعية، الربحية وغير الربحية، والمؤسسية وغير المؤسسية التي نذرت نفسها لخدمة اللغة العربية.
والحقيقة أن استشعار نعمة اللغة العربية وشكر الله عليها بأداء حقها علينا على جميع الأصعدة حاجة حقيقية، وليست ترفا، ولا شعارات، ولا مثاليات، ولا بكائيات؛ بل هي من أوجب الواجبات العالمية والإسلامية والعربية والوطنية والجماعية والفردية التي يخشى علينا، وعلى وجودنا وهويتنا، وعلى الأجيال القادمة إن فرطنا فيها، ولم نصنها ونتعاون جميعا من أجل صنع حاضر ومستقبل زاهرين للغة العربية، ولنعد العدة للموقف الذي نقف فيه -فردا فردا- ونسأل عن نعمة اللغة العربية، وماذا فعلنا بها، ولها، وعن المسلمين الذين قصرنا في تعليمهم لغة دينهم وكتابهم وسنة نبيهم؛ ابتداء بالعمالة المسلمة التي بين أيدينا وفي منازلنا وانتهاء بكل مسلم نتمكن من الوصول إليه، وعن تقصيرنا في تحقيق الأمن المستقبلي لها وتمكينها من إحراز المركز الأول على مستوى العالم، وهو ما يليق بها وبنا.