هتون أجواد الفاسي

في «عام الإبل» امتطيناها على «درب زبيدة»

الاثنين - 10 يونيو 2024

Mon - 10 Jun 2024


لم أستوعب بعد أنني على ظهر جمل أقطع مسافات طويلة امتدت لثلاثة أيام، وفي العام الذي كرسته الدولة ليكون «عام الإبل»، فرب رمية من غير رام، فقد أجلت ركوب الجمل حتى استنفذت كل المطايا على درب زبيدة إلى أن وصلت إليه لعلني أكسب صداقته في تلك الأيام.

وكانت المناسبة يوم التأسيس وما لحقها من أيام، فتكاملت التجربة التي بدأتها منذ عام 2021 على ظهر قدمي، فعجلات دراجتي، فظهر جواد ثم شداد إبل على مدى أربع سنوات، قطعت فيها المسافة العابرة لإمارة حائل والبالغة حوالي 460 كلم أربع مرات تزيد وتنقص مسافتها حسب مسار الرحلة في كل عام التي كانت تماهي المشي على درب الحاجة والحاج الكوفي، والذي عنت ببنائه ورصفه والوقف عليه السيدة زبيدة بنت الخليفة جعفر المنصور، زوجة الخليفة هارون الرشيد وأم الخليفة الأمين في القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، لتحييه على أصول عمارة الطرق في عصرها بشكل متكامل ومدروس وعلى مستوى عال من الإتقان والقوة حتى تصمد كيلو متراته الألف وأربعمائة لصروف الدهر وتقلبات المناخ وظروف الطبيعة القاسية لصحراء الجزيرة العربية ليصل الحجاج على مراكبهم إلى مكة المكرمة وهم في أمن وسلام وحتى تختصر المسافة قدر الإمكان بتوفير احتياجاتها في الطريق وتمهيده تحت حوافر الخيل والإبل، فكانت المسافة تستغرقهم قرابة الشهر تزيد وتنقص.

أما نحن فكنا نقطع جزءا بسيطا من هذا الطريق ضمن منطقة إمارة حائل بدأت بمسافة طويلة وصلت 420 كلم خلال أسبوعين، ثم اختصرت إلى 360 كلم في 12 يوما، خلال شهر يناير من عامي 2021 و2022. لكن العامين الماضيين 2023 و2024 تحولت القافلة إلى مسافة أقل لتتوافق مع يوم التأسيس في 22 فبراير فأصبحت مدتها ثلاثة أيام نقطع خلالها مسافة 70 كلم فقط. وفي كل رحلة كانت هناك تجارب جديدة وذكريات لا تنسى يحملها كل منا وتحثه على طلب المزيد من مثيل هذه الرحلات ومد أيامها ومسافاتها. وطيلة هذه المدة مع «جمعية دروب القوافل» بقيادة اللواء الدكتور عبدالعزيز العبيداء، التي حققت لنا نقلة نوعية كبيرة خلال الأعوام الأربعة الماضية في مجال الرحلات التاريخية والبيئية والرياضية والصحية، بل والاجتماعية.

كانت قافلة هذا العام هي الأكبر منذ انطلاقها في 2021، فقد بلغ عدد المشاركين حوالي 250 مشاركا ومشاركة، وكذلك كانت المشاركة النسائية هي الأعلى فبلغت 31 مشاركة، في كل مناحي النشاطات المتاحة، المشي، الدراجات، الخيل، الركايب والطيران الشراعي.

كانت تجربة ركوب الجمال جديدة من كل النواحي، فتجربتي السابقة مع الجمال كانت ركوبا ونزولا أو جر الخطام والمشي معها على النفود، لكن هذه المرة كنت ممتطية جملي «شقيران» لمدة ثلاثة أيام تحت الشمس والمطر في الحر والبرد وأنا أجرب نفسي عليه وعلى قيادته.

ركوبه يشبه ركوب الخيل بعض الشيء من ناحية أنها حيوانات ركوب وحمل وتحمل، وأنها تقاد بخطام ويمكن حثها على المشي والإسراع بضرب محيط البطن بعقب القدم، لكن لكل دابة شخصية ومزاجا، ولشقيران مزاجه الخاص الذي ينفعل كلما مررنا بقافلة من النياق مما يجعلنا نستنفر كل طاقاتنا في محاولة السيطرة على لجام إبلنا، ولكنه يهدأ ويصبح (فوتوجينيك) عندما نسلط عليه الكاميرا في لقطة سلفي، مواجها للعدسة بنظرات ثاقبة وواثقة من أناقته التي عنى بها الهجان فزينه بحبال السدو في ألوانها البهيجة من حمراء وصفراء مع إنهاء أطرافها بحزم من الخيوط الملونة التي تتدلى كشرابات الأعياد والزينات. كان لا يتأخر عن مجاملة أي مشارك في القافلة من إعطائه تلك النظرة الجميلة إلى صورته الذاتية.

وأيضا ما لبث أن استجاب لهمزاتي التي تبدو متمرسة لضبط حركته عندما يطلب الانطلاق، لكني أرخي عنانه عندما يكون الجو آمنا.

تتخلل حركتنا الانسيابية على جمالنا في قافلة من ستة راكبين تقريبا التناغم، حيث تضم سيدة هندية بريطانية (شيرلي) كانت رفيقة درب زبيدة منذ العام الثاني وهي من هجانات الركايب في دبي، ومصورة فوتوغرافية وصارت صديقة الجميع، وامرأة أخرى مصرية/أمريكية (أمينة سامي)، باحثة آثارية، قطعت المسافة بالسيارة مع رفيقتها المهندسة المعمارية من نيوم للانضمام إلى قافلتنا، ورجل لبناني/سعودي يعيد تجربة العام الماضي بعد أن استمتع بركوب الجمال، وسيدة سعودية كانت تركب هي وابنتها في دبي فشاركتنا اليوم الأول فقط، بينما اختارت ابنتها الخيل، وسيدة يابانية/فرنسية (أنّا) تركب في دبي، وقد جاءت برفقة ناقتها المهداة لها من أحد شيوخ دبي. ومع أنها كانت ناقة جميلة بزينتها التي عنت بها المشاركة كثيرا والتي سمتها (برينسس، الأميرة)، إلا أنها لم تكن ناقة مسالمة بأي حال، فضلا عن أن خبراء الركائب لا يفضلون أن يسوقوا النياق مع الجمال في قافلة واحدة لما يؤدي إليه ذلك من اضطراب في المسير وخطورة على الركاب الجدد كحالتنا، فكنا طيلة وقت اقترابها منا ونحن وهم على أهبة الاستنفار لضبط إبلنا وتطبيق كل نصائح الركوب مع مطالبتنا إياها بالابتعاد واللحاق بقافلة الخيول لعل ناقتها تعتقد أنها فرس فتستقر حالها.

وكانت هذه من مفارقات الرحلة الجميلة والتي أكسبت المسير تحديا ومعرفة بتفاصيل حياة هذه القوافل وطبيعة دوابها والتعامل معها.

ولعل من أجمل ما رافقنا كان سايسنا المحول من السنة الماضية، جايز العنزي الفارس والهجان الذي كان له أيضا باع طويل في حفظ القصيد وإطلاق النكات بالفصحى الجذلى لتتناسب مع القوافل التاريخية وكأننا في مسلسل تلفزيوني محترف، فيتبادل معه الحوار أي ماش أو راكب دراجة أو خيل في طريقه بنا مما يتطلب كاميرا خفية تلقط هذه الحوارات المرتجلة المرحة والتي لم تكن تقدر عليها كاميرات الدرون التي كانت تدور حولنا في كل مكان.

لكن هذه القافلة التي كانت تنبض بالحيوية في تآلفها مع الطبيعة والبيئة ومع رفيقات ورفقاء الطريق قطعت علي فجأة في مرحلة انقطاع الإرسال ثم استعادته لأجد أني فقدت في هذه الأثناء إحدى أعز صديقاتي.. أ.د. أميرة الأزهري سنبل التي غادرتنا أثناء الرحلة ولم يمكني الإرسال على الجبل إلا في تواصل محدود مع عبلة ابنتها بعد الوصول لرقمها وبقيت لم أتمكن من التحدث إليها إلا بعد أن وصلت حائل في اليوم التالي وكانت المشاعر فياضة والألم حارا.

فرحم الله د. أميرة سنبل وأسكنها فسيح جناته وألهم ابنتها وابنتنا، العزيزة عبلة، الصبر والسلوان.