سليمان محمد الشريف

ما بين سعادة النهاية و9785 يوما

الاثنين - 10 يونيو 2024

Mon - 10 Jun 2024

وأنا أدخل مع بوابة المبنى المدرسي مع أول يوم من اختبارات نهاية هذا العام الدراسي 1445 / 2023 - 2024 وهي آخر فترة في مسيرتي التعليمية وبداية فك ارتباطي بالتعليم رسميا بعد طلبي للتقاعد المبكر حاملا بين قرطاسي أفكاري المتداخلة ومشاعري التائهة متجها نحو لحظات الوداع الحارة والذكريات الطويلة التي بلغت 9785 يوما ما بين كر وفر - جهد وبذل - عناء وارتياح - شجون وانشراح - رضا وابتئاس.. ‏أخذت عدستي في صباح هذا اليوم المختلف موقعها كالعادة مع بداية مثل هذه الفترة من العام، ولكنني وجدت نفسي هذه المرة في مواجهة تناقض كبير، فشتان بين فرحة البداية وطموح الشاب النشط الذي قاوم الإحباط وتجاوز البدايات الصعبة ومرحلة الأمل والاستمرار، وبين لحظات الشوق لحياة الحر الطليق وسعادة نهاية خدمة بلا قيود أو ضمير يستشيط، ومضت عدستي المنهكة المتكئة على أنامل أتعبها الزمن توثق حوارات اللجان بين ممرات ليست كالممرات، عزاؤها الوحيد ضرب الأرقام محققة الرقم القياسي في التوثيق على مستوى التعليم بـ 59 فصلا دراسيا اقتطعت من عمر حاملها أكثر من نصفه كان قد عاشها معلما وأمينا مكتبيا ومنظما ومديرا ووكيلا ومشرفا مهنيا وقائدا كشفيا مخلصا وإعلاميا مضحيا.

كنت أوثق لحظات الوداع الأخيرة بين خليط من المشاعر ما بين ألم وأمل وشوق للماضي وتشوق للقادم، كنت بين رحى سجال وصراع كبيرين يدور في مخيلتي بين ثورة النشيط الباحث عن الرقم الأول والمتشبع من ممرات اللجان.

ختمت اليوم الصعب وودعت طلابي وزملائي وأنا في طريق المغادرة وجدت على بوابة الخروج شهادة خاصة مزجاة للعبور إلى باحة الشرف حملتها بين يدي، وكنت في غمرة السعادة برغم حرارة الموقف وصعوبة الوداع الأخير حملت شهادتي التي امتد عمرها 28 عاما، شهادة تثبت أنني لم أخالف فيها ضوابط وشروطا أو أتجاوز نظاما أو أسبق الأكفاء أو أخترق صفوف الأفضلية وأنهزم أمام الفاشلين واستبداد سلطة فاشلة أو أشحذ فيها محسوبا أو أتنازل عن كرامتي أو أدفع من أشيائي من أجل الوصول أو أحسب على الأمانة والأخلاق والنزاهة، شهادة تمنحني المضي في حال سبيلي بلا محاسبة ذاتية وبضمير من ثلج بلا ندم على قرار أو عمل أخل بشرف، وما أجمل النهايات بلا مخالفات وتجاوزات ومحسوبيات! ما أجملها دون مصاعب! وما أجملها وأنت قد انتصرت على المكائد ومن ثم على نفسك قبل أن تصافحها ببهجة وتهلل!.

ما أجمل النهايات وأنت تحمل في طريق العودة للحياة الخاصة شهادة تميز بتوفيق الله فسبحان الذي يظهر عبده ويميزه بتوفيقه على باقي خلقه!، شهادة إنصاف من الله، فسبحان الله الذي يعطي ويطفئ نور المعتدي، شهادة من نور، فسبحان الذي يضيء الدروب بنور فضله ويلقي بالجائر في دهاليز جوره، شهادة رفعة فسبحان الذي يرفع شأن عباده بقدرته ويحط ويحقر الفاجر، شهادة عليا في النزاهة، فسبحان الذي يمنح شهادات أعلى مراتب النجاح ويحجم شهادات بلا علم ومعرفة ساقطة في مغبات الفساد.

‏في ختام رحلتي التعليمية الممتعة مع من حمل الأمانة وأداها بإتقان، وحمل الرسالة وأوصلها بأمان، والتي اعترتها المشاق وبعض المكائد، وتوقف قطار الزمن عند آخر محطة تعليمية أحمد الله على التمام، والشكر له والثناء على عطائه وتوفيقه وامتنانه، ثم شكرا لا حد له لمن يعود الفضل لهم بعد الله: لأمي حبيبتي وفقيدة قلبي رحمها الله وغفر لها ولجدي وجدتي رحمهما الله ولأخوالي وخالاتي، غفر الله لمن صار منهم إلى جوار ربه، وحفظ من بقي وأخص بالشكر خالتي أم أحمد رحمها الله وغفر لها.

شكرا لمن تقلد وأحسن وكلف وأحكم وعين وقدم.. شكرا لكل زميل وزميله في تعليم محايل عسير على أي مستوى وفي أي مكان كانوا، وجدت نفسي معهم ووجدوا أنفسهم على قدر المسؤولية، كبيرة كانت أو صغيرة، شكرا لزملائي ممن يستحق الشكر في ثانوية بارق سابقا، وثانوية المنيظر سابقا، شكرا لزملائي في مكتب التعليم ببارق لمن يستحق الشكر منهم، شكرا لزملائي في مدرسة حنين بلا استثناء، شكرا لزملائي في مدرسة "الراشدون" لمن يستحق الشكر، شكرا لزملائي ممن يستحق في مدرستي معاذ بن جبل والخوارزمي، شكرا من القلب لكل زميل في مجمع المنيظر التعليمي بلا استثناء، وكل زميل في مجمع القريحاء بلا استثناء.

شكرا للحظات الجميلة مع زملائي وطلابي طوال مسيرتي وصادق اعتذاري لمن خانني موقف معهم أو أساء فهمي يوما.

شكرا لمن لم أجد نفسي معه فقد أعانني على رفعها والسمو بها.

‏نقطة أخيرة: إن التضحية وشجاعة التنازل وقوة الصبر والتحمل هي حلاوة النهاية وعطور الأرواح الزكية في الختام وشموخ النفس الطاهرة عند الوداع وفخر المترجل عن صهوة الجواد وإن قسوة الضيق وقلة الرفيق وشح النصير وحمل مغارم الزمن الطويل إنما هي مكارم عظيمة في النهاية وراحة أبدية إلى نهاية النهاية.




soliman_asharef@