عمر العمري

تطبيقات الفيديوهات القصيرة تسبب الإدمان

الأحد - 02 يونيو 2024

Sun - 02 Jun 2024

في ظل غياب دور أقسام علم النفس في الجامعات والمراكز المتخصصة الحقيقي في دراسات قضايا المجتمع ومستجداته وما يؤثر عليه على مستوى الصحة النفسية والعقلية والفكرية ووضع نتائج وحلول تعزز من الوعي لديه، وهذا دور أصيل للجامعات كما يعلم الجميع، في هذه الأثناء تولدت مشاكل أخرى لم تلتفت إليها هذه الأقسام في جامعتنا بعد، وقد تكون أشد خطرا وفتكا على المجتمع ونسجيه العاطفي والإنساني من خطر المخدرات والمسكرات لكثرة انتشارها وسهولة الحصول عليها من الصغير قبل الكبير، من خلال تحميل هذه التطبيقات والبرامج دون رسائل توعوية أو تحذيرية حتى الآن، وترك الناس يواجهون مصيرهم أمام هذا الإدمان الرقمي وخطر اجتياح برامج الفيديوهات القصيرة كتطبيقات مستقلة أو كخاصية مضافة لأغلب برامج التواصل الاجتماعي وما تحدثه هذه الفيديوهات القصيرة سريعة التدفق بكميات كبيرة وتنوع شديد دون حسيب ولا رقيب بين الأخبار السيئة، والأكاذيب والشائعات، ومشاهد العري، والبذخ المادي والهدايا، والسلوكيات الخاطئة، والألفاظ الخادشة للحياء، ومحاولة إثارة الانتباه والجدل للتكسب المادي، وذات توجهات غير محايدة سياسية أو قيمية قد تختلف معها الكثير من المجتمعات في العالم ولكنها سطوة التقنية والانتشار قد تضع الجميع أمام الأمر الواقع.

تعمل هذه البرامج بنظام الذكاء الاصطناعي وشبكة من الخوارزميات التي تساعد على تصميم نموذج تتحكم فيما يظهر إليك من فيديوهات تلبي رغباتك واهتماماتك وذوقك وما يعجبك من مقاطع ومشاهدات، فهي التي تجعل هذه المنصة أشبه بالإدمان لكل مستخدميها، وذلك وفقا لآراء الخبراء، بالإضافة إلى قدرة هذه البرامج على أن تقترح عليك فيديوهات ومقاطع وفقا لاهتماماتك وما تتوقعه أنك ستحبه ويحظى باستحسانك، ويتغير ذلك مع الوقت بتغير هذه الاهتمامات مما يضمن أنه لن يظهر لك إلا المحتوى الذي غالبا ما سيروق لك، بتدفق سريع وجودة عالية في ترشيح الأفضل، وهذا يخلق نوعا من الشعور بالسرور والسعادة يرتبط بهرمون الدوبامين، لأنه يعمل على التأثير في مناطق معينة من الدماغ تتحكم بمشاعر السرور والتحفيز والمكافأة، وهنا يكمن الخطر في محاولة الأصول إلى الشعور نفسه في كل مرة، وهل يستطيع البرنامج أن يوفر لك هذا الشعور بالمتعة والرضى كل مرة، مما يضع الفرد في مأزق أن يقضي ساعات طوال في البحث والتمرير في محاولة الأصول إلى هذا الشعور.

أكدت الدراسات أن الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي ومشاهدة المقاطع القصيرة غير المنضبطة بطبيعتها يمكن أن تؤدي إلى القلق والاكتئاب وانخفاض احترام الذات، وقد يؤدي التعرض المستمر لمعايير الجمال غير الواقعية في أجواء عالية الرفاهية والماديات الباذخة إلى الإضرار بالصحة العقلية للأفراد، ويمكن أن تؤثر طريقة عمل هذه البرامج من زيادة الضغوطات في محاولة الوصول أو تقليد هذه المشاهد الغريبة أو صعبة المنال، وتقديم تنازلات لكسب المتابعين والحصول على الإعجابات والتفاعل كنوع من الإنجاز الوهمي، كما يمكن أن يؤدي التعرض المستمر للصور التي تمت تصفيتها وتعديلها إلى مشاكل في الصورة الذهنية للجسم المثالي والشعور بالدونية وتدني مستويات احترام الذات.

في السياق نفسه تطرق كتاب السلوك الإنساني مع أجهزة الكمبيوتر في مجلده (145) إلى عدد من الاضطرابات في الحياة اليومية لبعض مستخدمي تطبيقات مقاطع الفيديو القصيرة، نتيجة لاستخدامهم المفرط لها، تمثلت في الشعور بالاكتئاب العاطفي، وانخفاض كفاءة التعلم أو العمل، وتدني مستويات التحصيل الأكاديمي لدى طلاب الجامعة أو التعليم العام، وسوء إدارة الوقت، وهي تشبه أعراض الإدمان السلوكي، وهو مستوى خطير من الاضطراب قد يحتاج إلى العلاج في مراكز نفسية متخصصة، وتعوز الأسباب إلى سهولة استخدام هذه التطبيقات بمجرد التمرير بين مقاطع الفيديو، وقصر مدة هذه المقاطع واحتوائها على قصص أو مشاهد مشوقة، والظهور والترشيح للأفضل بين هذه المقاطع بناء على مستوى الإثارة وقوة عناصر الجذب فيها للشباب، كما أن التدفق المستمر اللانهائي لهذه المقاطع الصغيرة والمثابرة لمحاولة الوصول إلى مستوى الرضى والشعور بالسعادة يستدعي أن تقضي ساعات طويلة في البحث، وتزيد المشكلة تبعا لعدد الساعات التي يتم قضاؤها على هذه التطبيقات، حيث وصلت في أحد استطلاعات الرأي إلى 4 ساعات و48 دقيقة، وهنا يكون الإدمان الحقيقي والأخطر في وقتنا الحاضر.

هنا يدق ناقوس الخطر .. ففي دراسة أجراها مركز الإدمان الأمريكي، حيث يقدر بنحو 27% من الأطفال الذين يقضون 3 ساعات أو أكثر يوميا على وسائل التواصل الاجتماعي ومقاطع الفيديو القصيرة تظهر عليهم أعراض ضعف الصحة العقلية، ويعد الإفراط في استخدامها إشكالية لدى الأطفال والشباب لأن أدمغتهم ومهاراتهم الاجتماعية لا تزال في مرحلة التطور، كما أظهرت الدراسة أن المراهقين الذين يستخدمون تطبيقات الفيديو القصيرة بشكل معتاد منذ سن مبكرة يعانون من تأخر شديد وصعوبات في اكتساب المهارات الاجتماعية، وعلى الرغم من حقيقة أن المستخدمين يتفاعلون مع بعضهم بعضا على هذه المنصات، إلا أن العديد من هذه التفاعلات لا تترجم بالضرورة بشكل جيد على الحياة اليومية الواقعية، وقد وجدت الدراسة أن هؤلاء زاد لديهم القلق الاجتماعي والاكتئاب، والصورة السلبية للجسم، وانخفض لديهم التعاطف والرحمة اتجاه الآخرين، كما وجدت دراسة أخرى أجرتها جامعة ولاية كاليفورنيا أن الأفراد الذين زاروا أي موقع من مواقع التواصل الاجتماعي 58 مرة على الأقل في الأسبوع كانوا أكثر عرضة للشعور بالعزلة الاجتماعية والاكتئاب 3 مرات مقارنة بأولئك الذين استخدموا وسائل التواصل الاجتماعي أقل من 9 مرات في الأسبوع.

إن الخطر الأعظم في خضم ذلك أن العقل البشري لا يستطيع تجنب المقارنات بين ما تحويه هذه المقاطع من صور وأجسام مثالية ومستويات عالية من الرفاهية والجمال مع الحياة الواقعية التي يعيشونها، مما يشعرهم بتدني احترام الذات والإحباط من واقعهم، وينتج عنه اضطراب الأكل لدى الشباب والهروب من الواقع وبالتالي التدخين وغيره، على الرغم من أن العديد من المراهقين يعرفون أن أقرانهم يشاركون فقط أفضل صورهم ولحظاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنه من الصعب جدا تجنب هذه المقارنات.

في دراسة أخرى من جامعة بيتسبرغ عن وجود علاقة بين الوقت الذي يقضيه الفرد في تصفح تطبيقات الوسائط الاجتماعية وبين ما أمضوه من أوقات أطول كان لديهم خطر الشعور بالإدمان الرقمي مقارنة بأقرانهم أكثر من مرتين ونصف، وأن الحاجة إلى الحصول على الإعجابات والتفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يدفع بالمراهقين ليس فقط إلى تغيير مظهرهم ولكن أيضا إلى اتخاذ خيارات لم يكونوا ليقوموا بها لولا ذلك، بما في ذلك قبول تحديات محفوفة بالمخاطر أو الانخراط في سلوكيات سلبية.

أعتقد أن الوضع خطير جدا ويحتاج إلى وقفة جادة من المجتمع والمختصين، وأن يكون هناك مراكز متخصصة وبرامج توعوية بالمواطنة الرقمية في الجامعات والتعليم العام للحد من هذا الخطر الجارف، والبحث عن برامج وأساليب تزيد من المشاركات الحياتية والواقعية والأسرية، ورفع مستوى الجودة الإنتاجية المحلية للدراما والأفلام والمسرح المقننة والتي تحمل الرسائل الهادفة والتوعية المسؤولة، وتعالج هذه القضايا وتسلط الضوء على غيرها من القضايا المجتمعية.

@3OMRAL3MRI