زيد الفضيل

الإعلام الجديد وطوفان التفاهة

السبت - 01 يونيو 2024

Sat - 01 Jun 2024

يظل مفهوم الإعلام الجديد ملتبسا في هويته ومعناه الدقيق، ومثله مسمى صانع محتوى الذي بات مستباحا كغيره من المسميات، بحيث أصبح كل من يكتب في وسائط التواصل المجتمعي إعلاميا وصانع محتوى، وصار كل من يبث حكاياته ويومياته عبر منصات السوشيال ميديا إعلاميا وصانع محتوى، وأصبحت القيمة في عدد المتابعين وليست في المضمون المقدم، وهكذا بات الجمهور حاكما ومتحكما، وهو ما تنبأ له جوستاف لوبون في كتابه «سيكولوجية الجماهير».

أشير إلى أن الدعاة الجدد من الإسلاميين كانوا هم أول من أدخلنا في هذا الجحيم، وصار أحدهم يتفاخر بأن متابعيه بلغوا مئات الألوف، ومن حينه صار للرقم قيمة، بغض النظر عن صدقه ومتانة مضمون المتابعين، والعجيب أن هؤلاء المتابعين الذين في ظاهرهم يمثلون قطيعا خلفه، ويمشون وراءه، صاروا مع الوقت هم الموجهون لهذا المشهور سواء كان من الدعاة الجدد أو مشاهير الحكي والسوالف، فأصبح يقول ما يريدون، وبالشكل الذي يريدون، خوفا من أن يفقدهم.

هكذا بدأ نظام التفاهة الذي حدد ملامحها «ألان دونو» في كتابه، لكني أؤمن بأن النظام قد خرج عن سياقه وأصبح طوفانا كاسحا تجاوز بصورته ومظهره أدوات نظام التفاهة وقواعدها.

في هذا السياق وقبل أيام معدودة عقد في دبي منتدى للإعلام، ويظهر من أجندته حجم الحشد الواسع للأسماء وبخاصة من ممتهني ما يطلق عليه تجاوزا اسم «الإعلام الجديد»، على أن اللافت تمثل في تجاوز منظمي المنتدى للاهتمام بالجانب الكمي، الذي بات طبيعيا في منتدياتنا الخليجية، إلى السبق في استحداث نمط جديد في زمن كل لقاء أو محاضرة في المنتدى، بحيث تم تخصيص خمس دقائق إلى عشرين دقيقة كحد أعلى لكل لقاء، وتم حشد أكثر من لقاء في الزمن الواحد، والأعجب حين يتم استضافة شخصيات سياسية مهمة، للحديث في موضوعات شائكة، كموضوع اليمن وموضوع مستقبل مجلس التعاون الخليجي مثلا، فيعطى أولهما عشرين دقيقة، وثانيهما خمس دقائق، وهي ذات المدة التي تعطى لأي متحدث ينتمي لما يسمى بالإعلام الجديد.

وواقع الحال فأنا هنا لا أقلل من مشاهير التواصل المجتمعي الذين باتوا - وفق قانون سوق المتابعة والمعجبين - أكثر أهمية من غيرهم، بل أعبر عن رأفتي بحال السياسيين والمثقفين الذين استهلكوا أعمارهم، وأنهكوا أجسادهم، في قضايا شائكة لا يأبه لها السياق الجديد، ثم بعد ذلك يأتي من يبكي على اللبن المسكوب في وقت لا ينفع فيه البكاء ولا يجدي.

في جانب آخر فقد لفت نظري ما أعلن مؤخرا عن تجمهر شباب مغربي في معرض الكتاب بالرباط حول مؤلف سعودي كتب وطبع على حسابه عددا من الروايات في السياق الغرائبي، وقام بتسويقها عبر منصاته في وسائط التواصل المجتمعي بشكل جيد، ويظهر أنه تفرغ لذلك كثيرا، واستخدم تقنيات التواصل المجتمعي لتسويق كتبه، فحقق نجاحا باهرا بين فئات الشباب الذين لا يملكون القدرة على تقويم عمله ونقده بشكل بناء؛ ولست هنا منتقدا عمله أو مقللا من جهده، فلعله كان مبدعا في صياغته وحبكته الدرامية، وهو ما يقرره أصحاب الصنعة الأدبية الذين وكما يظهر لم يطلعوا على إنتاجه، ولذلك لم يلتفت إليه أحد، وأظنه أراد تجاوزهم والركون إلى تصويت الشارع بعيدا عن رأي المختصين من الأدباء والنقاد.

ما أردته من المثالين هو الإشارة إلى حجم التيه الذي بات فيه سياقنا الثقافي والمعرفي، فالجمهور أصبح هو الحاكم، وهو المعني بالاهتمام، وليس المختصين ومن أجهدوا أنفسهم في رواق المعرفة؛ وأصبح عدد المتابعين هو المعيار والمؤشر وليس قيمة المعرفة وعمقها، وهكذا يتم تسطيح كل شيء لحظة بلحظة، ويتحول المعرفي إلى أيقونة تراثية لا قيمه لها في خضم الإسفاف والتفاهة الممنهجة على الصعيد المؤسسي.

أختم بالإشارة إلى دعوتي القديمة التي أجددها مرة بعد مرة ولا أجد لها متبنيا، وكم أرجو أن تتبناها إدارات معارض الكتاب في السعودية والعالم العربي، وفحواها يتركز على أن يتم وعبر لجنة منهجية تتكون من عدد من المثقفين البارزين، تحديد الكتب التي تستحق أن توقع في منصة معرض الكتاب الرسمية، بحيث يكون توقيعها بمثابة الإقرار بقيمتها الأدبية والعلمية، وجودة محتواها، ومتانة مضمونها؛ مع إعطاء دور النشر الحق في توقيع مطبوعاتها في مساحتها المخصصة وفق الاشتراطات اللازمة لذلك مساحة وعددا.

هذا التنظيم يسمح بفرز الكتب أولا، ويعطي الكتاب العلمي والأدبي قيمته، إذ يمثل إعلان توقيعه في منصة المعرض الرئيسة شهادة بجودته، كما يعيد لمعرض الكتاب مشروعيته القيمية، ويفرز بين الحقيقي والوهمي، وعلى الأقل لا يعطي الوهميين ومشاهير الحكي والسوالف فرصة لاستباحة ما تبقى من مساحة رصينة يجب أن تظل محفوظة من أجل مستقبلنا على أقل تقدير. ودمتم.

zash113@