موسى الحريصي

مقولة غير مضرة بالصحة

الاثنين - 27 مايو 2024

Mon - 27 May 2024

هنا واحدة من المقولات "المال داء هذه الأمة والعالم طبيب هذه الأمة، فإذا جر العالم الداء إلى نفسه، فمتى يبرئ الناس" التي وردت في كتاب الجامع عن العالم الجليل سفيان الثوري العالم الفقيه المحدث الذي لقب بشيخ الإسلام وإمام الحفاظ وأمير المؤمنين في الحديث؛ فقد روى عنه العلماء الكثير بعد وفاته وبقيت أقواله المأثورة رشادا ووقارا لعلماء الأمة في زمانه. هذه المقولة قادتني للكتابة عمن هو العالم اليوم وماهي مكاسبه المادية في عصرنا الحاضر وما يجري من تغيير في مفاهيم المال والأعمال التي بطبيعة الحال من تحدد قيمة العالم والمعرفة وما بها من داء ودواء.

كثرت الأقوال والأحاديث عن علماء اليوم وعن مشروعية العلم النافع وقد كانت في زمن ليس ببعيد قسرا على علماء الشريعة من وعاظ ودعاة وطلاب علم في علوم الشريعة فقط دون غيرهم بظن منهم أن العلم الشرعي هو فقط العلم النافع الذي ينفع الناس في دينهم ودنياهم وما سوى ذلك من علوم الطب والهندسة والتقنية والإدارة والعلوم الاجتماعية ليس لها قيمة علمية ولا شرعية تذكر.

ولكن الشمس هي الحقيقة الوحيدة التي لا نستطيع حجبها بغربال.

فقد جاء عصر التجديد والشمولية في التنمية إنسانا ومكانا وأعطى كل ذي حق حقه ووضع كل شيء في موضعه.

فالعالم اليوم هو الباحث والمتخصص في كل المجالات المتاحة في الجامعات والمراكز البحثية سواء أستاذ في الشريعة والقانون أو أستاذ في بقية المجالات العلمية الطبية والهندسية والتقنية والإدارية وفوق كل ذي علم عليم.

لفت انتباهي مقولته التي يحث فيها على زهد العالم ومنفعته للناس وما المال إلا منقصة الزاهد في زمانه.

ولو نظرنا لصدق المقولة لوجدناها بصريح العبارة صحيحة تامة في زمان سفيان، ولكنها في عصرنا الحالي ضاق بها الحال وتغير بها المآل والمقال إلى حد لا يسعف العالم إلا أن يقول المال دواء هذه الأمة وبلسم جراحها دون أدنى شك.

صحيح قد تسوء أخلاق العالم حينما يكون منكبا وباحثا عن المال فقط دون مراعاة لحاجات الناس، ولكن لكل قاعدة شواذ.

وما يدريك أن بعض من رجاحة القول الحسن والحكمة أمس أصبحت اليوم زهدا لا خير فيه.

تبدلت المفاهيم وتغيرت الأقوال وتقلبت الأحوال وكل ما كان داء أصبح اليوم دواء.

عالم اليوم وطبيب هذه الأمة لا يستطيع أن يقوم بعمل دون مقابل مادي حتى ولو كان ذا منصب، وجاه ومال وفير.

ليتك ترى ما وصل إليه عالم اليوم من تطور فقد تغيرت المسميات وأصبح العالم اليوم هو الباحث والأستاذ الجامعي المتخصص والخبير في مجاله.

فمن لم يكن زاهدا في عهدك يا سفيان فاته أن يكون ملاكا.

فقد تطورت العلوم وتغيرت أخلاق وطبائع الناس وتعقدت مطالب الحياة حتى ضاقت بالناس اخلاقهم وابتعدوا كل البعد عن بساطة كل ما هو سفياني وذهبوا إلى كل ما هو رأسمالي.

رغم كل هذا إلا أننا نشتكي يا سفيان من قل زهدنا وكثرة وتنوع رغباتنا حتى أصبحت حاجة ملحة لا يستقيم معها زاهد.

من هنا أقول إن من دواعي نجاح التنمية هو الاهتمام بتحفيز وتشجيع هذا العالم وعدم الزهد في ماله وراتبه ومميزاته، ومن الواجب عليه هو القيام بحقوق الناس والشفاعة لهم في استحصالها، والنظر في مصالحهم، وسد حاجة المحتاجين، وإرشاد الأغنياء من العلماء إلى أن يكونوا زاهدين في أموالهم.

أختتم كلامي بحكاية شاملة الضريبة لعلها تنفع غيري من معشر الزهاد من العلماء ومن استطاع إليهم سبيلا وهي لعالم راسخ هو الحسن البصري رحمه الله؛ حينما جاءه الرقيق وطلبوا منه أن يكلم الناس في خطبة الجمعة عن فضل عتق الرقاب؛ إذ كان الناس وقتئذ يقبلون منه ما لا يقبلون من العلماء.

ولكن البصري قام في الجمعة الأولى فلم يتكلم في هذا، وفي الثانية لم يتكلم، وفي الجمعة الثالثة تكلم فأحسن في فضل عتق الرقاب، فخرج الناس من المسجد فأعتقوا من كان عندهم من الرقيق، فجاء الرقيق المحررون لوجه الله تعالى يشكرون الحسن ويقولون "أبطأت علينا ثلاث جمع، فقال: لقد انتظرت حتى رزقني الله مالا، فاشتريت عبدا وأعتقته لوجه الله تعالى؛ حتى لا آمر الناس بما لم أفعل".

ولنا في البصري قدوة حسنة.

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح.