بسمة السيوفي

روج أحمر

الثلاثاء - 14 مايو 2024

Tue - 14 May 2024

كنت في مطعم مزدحم منذ يومين، أغلب الموجودين من الفئة الشابة، صخب الحوارات أكثر مما ينبغي، خلفية موسيقية عالية وممجوجة، تصطف السيارات والناس عنده بالطوابير، الطعام المقدم شهي ورائع، بالإضافة إلى أشياء لها مآرب أخرى، تتفحصك الوجوه مذ دخولك حتى جلوسك إلى الطاولة، الفضول يطغى أكثر مما ينبغي.. فكأنك عالق بين ما كان وما سيأتي.. بين ذاك الذي كنت قبل دخول المكان وما ستكون عليه بعد أن تغادر.

ولأكون صريحة فقد انتقلت العدوى إلى شخصي الكريم.. حاولت التفحص دون أن يلاحظ أحد.. على يميني مجموعة من الفتيات ربما في الثلاثينيات.. كاملي الزينة.. «روج أحمر» غامق.. رموش مقاس 11 مل.. «عبايات» مميزة وجميلة.. أصوات ضحك عالية، في الزاوية الأبعد يجلس ثنائي.. أظنهم متزوجين؛ لأنهم ينظرون إلى ما حولهم أكثر مما ينظرون في أعين بعضهم البعض.. الروج أحمر أيضا.. فما الحكاية؟

على مدى قرون كان أحمر الشفاه رمزا قويا للتعبير عن الذات والثقة الأنثوية، استخدمته الحضارات القديمة مصنوعا من الأصباغ الطبيعية لتحسين الجمال.. من بلاد ما بين النهرين إلى وادي السند منذ 5 آلاف عام، وتطور إلى أداة تشكل الهوية الشخصية والتصورات المجتمعية، يذكر أن العالم العربي الأندلسي أبو القاسم الزهراوي قام باختراع أول أحمر شفاه صلب عام 1000م.. وقام بوصفه في كتابه «التصريف لمن عجز عن التأليف».

انتشر استخدام أحمر الشفاه في إنجلترا خلال فترة حكم إليزابيث الأولى في القرن الـ 16م، وتم تصنيعه من شمع النحل وصباغ نباتي أحمر.

استطاعت النساء وضع أنابيب أحمر الشفاه في حقائبهم والتنقل به منذ العام 1923م.

أما في اليابان فقد وضعت النساء مكياجا مكثفا، وأحمر شفاه غامقا مشتقا من القطران والشمع، وفي الإمبراطورية اليونانية ارتبط أحمر الشفاه، بالبغاء وكان القانون يلزمهن بوضع لون شفاه داكن.


ينظر إلى أحمر الشفاه على أنه معيار لأنوثة المرأة، وضع الماكياج بحد ذاته من الطقوس المهدئة للحالة المزاجية.. حتى أنه يمنح المرأة فرصة للتعبير عن أسلوبها الفريد ويظهر التفضيلات الشخصية.

لا شك أن هناك ضغطا مجتمعيا على النساء للالتزام بمعايير جمال معينة في ظل التوقعات والمعايير المجتمعية.. يعتبرونه جزءا من المظهر المهني المصقول في العديد من أماكن العمل، يشير إلى قدرة المرأة على الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة.. هو لون القوة، لون الحماس، لون الشغف، هو الدرع الواقي لدى البعض.. حتى أنه قد يشير إلى نمط الشخصية ومزاجها ونهجها في العمل، ودليلا على الثقة والفردية.. كلها إشارات غير لفظية تعبر حتى عن النوايا نحو الآخرين دون كلمات.

برزت الحمرة الحمراء أيام مارلين مونرو واليزابيث تايلور ثم مادونا وصولا إلى ريهانا وتايلور سويفت وباريس هيلتون في وقتنا الحالي.. كان ومازال رمزا للمرأة القوية الواثقة.. أنا أتحدث عن الأحمر الداكن الذي يراقص الشرور، كان ممنوعا علينا البتة في المراهقة.. كان مستحيلا وضعه في المدرسة أو الجامعة، سمحت أمي باستعمال ملمع الشفاه فقط في الصف الثاني ثانوي، ثم تدرجنا حتى الألوان الفاتحة.. كانت وقتها موضة «الأرواج» الفاتحة مع محددات شفاه داكنة، المفارقة أن حفيدتي الآن.. يسمح لها في مناسبات المدرسة وضع ملمع الشفاه وهي في عمر التاسعة!!


قرأت رأيا يقول: «إن تدرجات الروج تحدد تدرجات أخلاق المرأة.. فكلما خف اللون وبهت، كانت أخلاق البنت «أرفع».. والأحمر القاني رأس الشرور، لا تتزين به إلا جماعة.. اللهم عافنا واعف عنهم».

السؤال هنا.. لم تحرص بعض النساء على وضع الروج طيلة الوقت؟ لماذا ذاك الهوس لدرجة حمله في حقيبة اليد، وفي السيارة، وداخل درج المكتب ناهيك عن مجموعة «التسريحة»؟

من ترتدي الروج الأحمر الشرير.. اللون الذي درجته مثل لون سيارة (الفيراري الحمراء).. لديها شيء يختلف عن الأخريات.. لديها رغبة في الاختلاف.. في التعامل معها بطريقة مختلفة.. ربما يفتح لها النادل الباب بترحاب أكثر في المطعم... وربما يستمع إليها الآخرون بتركيز أكبر.. وقد يحدق بها زوجها بمشاعر أحن.. تمتلك قوة خارقة مع الأحمر.. فلا وجود لعامل المقاومة أو الاعتيادية أمام هذا اللون، كما أن المرأة تخاطر عندما تضع اللون الشرير وهي تتناول الطعام.. لأن مشهد الشفاه قد يتشوه بالكامل.. خاصة إن أكلت «الفيتوتشيني بالصلصة البيضاء».. هي جسارة جاذبة تستحق الثناء عند انتهاء العشاء.. وهو ذكاء عاطفي به وعي واعتراف وإرادة وتفهم، وفضول، وتقبل.

جميل أن تتزين المرأة دون لفت الأنظار.. دون إغواء أو بهرجة.. جميل أن تكون على حقيقتها بلا رتوش مزيفة لدرجة التشويه.. حتى في بيتها وأمام مرآتها، تقييم الآخرين للشكل والملابس هو شيء لا يمكن تجاهله في حياتنا الاجتماعية، وهناك أساسيات تجنبنا الإساءة إلى مظهرنا.. دون إفراط أو تفريط؛ فالأنوثة ليست قلم روج، هالة القداسة التي تحيط بالأحمر الشرير باتت تناقض نفسها.. لدرجة أن اللون من كثرة انتشاره واعتياد رؤيته بات ينتقم ويثور مدمرا لتاريخه العظيم.. فلم يعد مؤثرا كما يتصوره الناس قديما.

أما عني.. فقد كان الأحمر جرعة زائدة عن الحد هذا اليوم.. عدت من المطعم الإيطالي لأفتش في درجات أحمر الشفاه المتراصة بأدب على «تسريحتي».. ربما أحتاج للوقوف على عتبات تجربة إدراك جديدة.

يقولون إن ليلى كانت تتبختر برداء أحمر.. وربما روج أحمر.. والذئب يأكل الجدات.. فكيف سيعبأ بالأحمر الشرير وهو في الغابة؟!

smileofswords@