عبدالحليم البراك

السيرة الذاتية.. الصدق المزور!

الاثنين - 13 مايو 2024

Mon - 13 May 2024

المتأمل في كتابة السيرة الذاتية يمكنه وصفها بأنها صدق مزور، أو قل بعبارة أخرى، تزوير حقيقي للأشياء، ويمكن التعبير عنها بشيء آخر لا يقل جنونا، إنها الحقيقة التي لا تمت للحقيقة بصلة، وبطريقة أخرى أيضا، هي قراءة لواقع لم يحدث حرفيا، أو حدث نوعا ما، حتى قراءتنا للسيرة الذاتية هي قراءة أخرى حقيقية لصورة غير حقيقية وقعت تحت مؤثراتنا، وبذلك تكون الحقيقة مركبة، ويكون التزوير - الكذب - سوء الفهم فيها مركبا، أو أنها منظور الكاتب للحياة، لكنها ليست مرتبطة بقيمة مطلقة للأخلاق والقيم، أو الحقيقة والصدق، أو حتى أنها ليست كذبا محضا أيضا، لكن لا يمكن الاختلاف أيضا أنها صورة للحقيقة لم يشاهدها الناس، وأن الصدق فيها حاضرا لأن الإنسان لما يكون لديه سيرة ذاتية يعني أنه وصل لمراحل.

ولمن قرأ السير الذاتية بتمعن سيلمس أشياء كثيرة في عالم السيرة الذاتية، فحتما (وأقطع هنا بكلمة حتما) لما تقرأ سيرة ذاتية لشخص تعرفه جيدا أو شخص معاصر، فإنه يصف الواقع من منظوره الشخصي، وليس شرطا أن يظهر نفسه بصورة البطل القوي والقومي والقادر والصادق (بعض السير الذاتية كشفت في اعترافاتها عن أشياء سيئة في حياته وكأنها تكفير لتلك السيئات) فحينما تقارن ما قاله المعاصر لك والواقع ترى أنه صادق وكاذب، أو أنه صادق ويفهم بطريقة خاطئة، أو أنه صادق لكنه يخضع لقوى الواقع أكثر من خضوعه لقوى الصدق، وهذا يجعل مصداقية السير الذاتية ليست بتلك القوة، ويقال بأن شواهدها الأخرى تشهد لها، ونقول أيضا: صحيح، ولكن (لكن هذه تحتمل مئات الصفحات من الاستدراكات التي لا تنتهي) السيرة الذاتية كذب محتمل لحوادث صادقة وقعت تحت تأثير الشخص والمجتمع والسلطة والناس وحتى الموضة الفكرية السائدة منها والمجتمعية.

إذن إن كانت السير الذاتية تخضع لكل هذه المؤثرات فهل يمكن الوثوق بها، أم أنها مجرد استنارة أم أنها نصف الحقيقة التي يمكن أن نصل إليها بطريقة أن نقرأ لآخرين حتى نكمل الصورة، أم أنها الصورة الأخرى من الزاوية الأخرى التي نتفهم تماما اختلافها عن الحقيقة!

إن أصدق الناس في السيرة الذاتية لا يمكنه أن يصل للصدق الذي أتصوره أنا أو تتصوره أنت، ولا يمكنه أن يخضع للصدق الذي يتصوره آخرون، وبيني وبين الآخر فرق ثقافي اجتماعي سلطوي متعدد لا يتوقف، فما يقوله العدو في سيرته الذاتية بطولة عنده لكنه جبن لدي ومؤامرة وكشف وتلاعب في اللغة والألفاظ، وهنا يأتي دور المحلل الصادق أو يأتي دور الأدوات التحليلية للسير الذاتية لتنقيتها من مؤثراتها الخارجية والداخلية، والغريب أنه لا يمكن تنقيتها مطلقا!

يكتب أحدهم سيرته الذاتية لكن لا يكتب عن نواياه بل يزورها أحيانا، ولما ينجح، يجعل من قبليات سبقت هذا النجاح إرهاصات عمل أدت إلى هذا النجاح لكن في الحقيقة ربما لعبت أطراف أخرى غائبة أدوارا تم تجاهلها، وقد يسجلها الآخر فتكشفها وقد تختفي فيزور التاريخ تحت مسمى السيرة الذاتية، أما اللغة وتلاعبها في السيرة الذاتية فهي حكاية أخرى، حين يحول العمل الجبان إلى بطولة، أو يصف البطولات بأنها أعمال تخريب وجبانة، وهكذا تظهر اللغة قدرتها غير العادية في العبث بالواقع والأحداث.

لا يوجد طريقة لتنقية السيرة الذاتية ما دمنا نتكلم عن الإنسان الذي يمتلئ بالمتغيرات التي لا تتوقف سواء على مستوى الفرد أو المجتمع أو المؤسسة ولا يمكن أن نتحدث عن سيرة صادقة حتى في التلقي إن كان المتلقي نفسه يخضع لنفس المتغيرات والمؤثرة على قراره وحكمه على الأشياء في ظل غياب كبير للأحداث المصاحبة في تلك الفترة. ولا حل يمكن أكثر من اللاقطعية في النظر والتعاطي مع هذه الكمية الهائلة من المتغيرات التي لا تنهي وأن يضع الإنسان كلمة وسيطة تجعل من النص الحياتي هذا موصولا بـ (ربما) و (من الممكن) أن يكون ذلك كذلك!

Halemalbaarrak@