علي المطوع

كساد الكتابة العظيم!

الأحد - 12 مايو 2024

Sun - 12 May 2024

ما زالت الكتابة متنفسا وحيدا يلجأ إليها أصحاب الأفكار من الذين لا تسعهم المنابر الحديثة ليسمعوا من حولهم، الكتابة قبل أن تكون كلمات وتعابير؛ هي مشاعر مكبوتة تظل حبيسة دهاليز تلك العقول التي أعياها الوعي المفرط بذاتها وبالأشياء الأخرى من حولها في هذا العالم الذي لم تعد فيه هذه الحرفة الإبداعية الوسيلة المثلى للتعبير، بقدر ما أصبحت وسيلة تراثية يستخدمها الطيبون ليشعروا الآخرين بوجودهم ومن ثم أهميتهم.

الطيبون؛ من هم الطيبون؟ هم الذين يستعدون للرحيل من هذا العالم، فقد انتابتهم مشاعر الألم والحيرة من هذا الزمن، فالأجيال الجديدة تتعاطى الحضور عبر وسائل أكثر حداثة، تسهم في زيادة تأثير حديثهم وتحديثهم عند الناس. أما هؤلاء - الطيبون - فهم يعشقون الحضور ويرون أنهم أهل له، لكن الزمن وشواهده وشهوده تظل عاجزة عن استيعابهم واستيعاب ما كانوا يفعلونه، كون هذا الفعل (الكتابي) لم يعد صالحا لهذا الجيل الجديد من البشر.

هؤلاء الطيبون كانوا يهتمون بالكلمة وسبكها وطرائق إيصالها للناس عبر نصوص أخاذة؛ رفيعة في معانيها ومبانيها، كانوا يرصعون كتاباتهم بـ»قال المتنبي» ويستشهدون بشوقي ويبحثون عن اللغة الرصينة التي تجعلهم نسقا مختلفا في أذهان الآخرين.

كان هؤلاء الطيبون يحتجبون بداعي العزلة كونها تحيطهم بهالات من الهيبة والوقار، واليوم يعيشون عزلة إجبارية كون المحيط لم يعد يستوعب أفكارهم ولم يعد الجيل الحالي بحاجة لإبداعهم الذي كان وربما لن يعود!

الكتابة اليوم تعيش حالة من الانغلاق على ذاتها وكتابها؛ فلم تعد شيئا ينير بصائر الآخرين ولم تعد تلك البصيرة التي يرى من خلالها الحاضر والبعد وما بعد البعد، انغلاق يقابله انفتاح على الصورة وتصوراتها الحديثة التي أحدثت نقلات هائلة على مستوى التلقي والتأثير، كون وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة اختصرت المشهد واختزلته في صناع محتوى جدد يبحثون عن الإثارة والمتعة والتسويق والتشويق!.

كانت الكتابة فعلا حاذقا لا يجيده إلا الراسخون في الفهم، واليوم -على سبيل المثال لا الحصر - يقدم لنا الذكاء الاصطناعي باقات منوعة من النماذج الكتابية الجديدة والمحكمة الصنع، بيد أنها عند العارفين بخفايا الكتابة وأسرارها لا تمر هكذا دون فحص، فالراسخون في الكتابة يعرفون كيف يفرقون بين المؤتمت صنعة والمسبوك موهبة، من خلال إحساسهم بالنص ومدى ملائمته للهدف الذي أنشيء من أجله، فالذكاء الاصطناعي في أحسن أحواله الكتابية يظل كحاطب الليل يجمع الكثير ولا يعرف كنه ما جمع!

يا معاشر من بقي من الكتاب البررة الذين تجاوزهم الزمن بصوره وأدواته؛ الله الله في مواهبكم الكتابية، استنسخوها نصوصا إبداعية في كل مكان، أعيدوا للكتابة وهجها ورونقها أعيدوها إلى مسرح الحياة كما كانت في زمن مضى؛ الأداة التعبيرية الأولى التي اخترعها الإنسان لتترجم أحاسيسه ومشاعره، فالكتابة سفر من المشاعر والأحاسيس التي اقترنت دائما بالخلوات الإنسانية، ففازت باللحظة الشعورية الأولى لتكون حكاية في كتاب أو قصة في مجلة أو قصيدة في ديوان؛ تتناقلها الذائقة السوية لتحكي قصة ومضة شعورية شاردة، اصطادتها اللحظة الإبداعية الفارقة فألبستها ذلك التعبير الكتابي الجميل، لتسكب على الورق شاهدا على عصر إبداعي فريد، كانت الكتابة فيه هي السيد وكان نتاجها هو السيادة وكان وقعها على الناس هو السؤدد الذي لا يقبل القسمة إلا على اثنين؛ كاتب مبدع وقارئ نبيه.