بندر الزهراني

رفقا بالطلاب يا معشر الفلاسفة!

السبت - 11 مايو 2024

Sat - 11 May 2024

أتذكر في المدرسة الابتدائية أنني كنت أخاف من معلميها أكثر مما أخاف من أبي، وهذا حال جيلي والأجيال التي قبله، وكنت إذا لعبت كرة القدم في ملعب القرية أراقب الملعب جيدا لئلا يراني أحد المعلمين، فإذا تحمست للعب ونسيت المراقبة أظل متوجسا في صبيحة اليوم التالي، خشية العقاب الذي لا أنجو منه في الغالب.

وظل هذا الخوف ملازما لي حتى تخرجت من الثانوية، وكنت أقول في نفسي إن أصبحت معلما يوما ما فسألعب الكرة مع طلابي وأشجعهم على اللعب والمرح، فما التعليم إلا نزهة. فلما كبرت أدركت فضل معلمينا وحرصهم علينا واهتمامهم بنا رغم قسوتهم الأبوية، أي بمعنى الحزم والشدة، لا انتفاء العطف والرحمة.

يخبرني أحد الزملاء من الأساتذة، أنه ناقش رسالة دكتوراه لإحدى الطالبات، وأنه لما دخل قاعة المناقشة شك أنه دخل قاعة أفراح، وأن الطالبة مع أهلها وذويها ينتظرونه مأذونا يتلو عقد قرانها مع الدكتوراه، لا أكثر، وخشي أن يفسد أفراحهم فترك ملاحظاته جانبا، وبدأ يسأل الطالبة أسئلة هامشية، ولكن هوامشه قادته إلى مناقشات جوهرية أعمق مما كتبه من ملاحظات ابتداء، واستمر في نقده وتوجيه الأسئلة، فلما علت نبرة صوته، واختلفت وتيرة كلامه، خافه الحضور، وأصيبت القاعة بالصمت والوجوم، والطالبة بالتوتر والقلق، وبينما هو كذلك إذ جاءته قصاصة كتب فيها (خفف يا دكتور)، فالطالبة قد أغمي عليها والقاعة ضجت بالبكاء والعويل، فختم نقاشه بالقول: نقدنا للمتنبي لا يلغي شاعريته وأنه شاعر العرب الأول، لكنه ورغم تلطيفه للأجواء، إلا أنه لم يجز الرسالة قبل تعديل ما لاحظه عليها.

على المستوى الشخصي، يعجبني المناقش المتميز، المتزن في نقده، والدقيق في ملاحظاته، والعميق في نقاشاته، والملتزم بثوابته ومنطلقاته، فالمناقش - في العادة - لا يستعرض معلوماته وبلاغة ألفاظه، أو يظهر سعة اطلاعه ومستوى ثقافته، بقدر ما يقدم صورة الأكاديمي المثقف، ويعكس هيبة التخصص وجودة العمل المطروح للمناقشة، بخلاف المناقش السطحي، ذلك الذي يهتم بعلامات الترقيم والفواصل والتشكيل، ويغفل أو يتغافل عن المحتوى وموضوعاته، ويكيل عبارات المديح والثناء هنا وهناك، بداع أو بدون!.

أحد الطلاب شكى لي أستاذه الفيلسوف، وقال: حضرت معه متوجسا منه ومن طريقة تعامله مع طلابه، ولم أجد طالبا يثني عليه إلا معقدا مثله، ولما حضرت معه وجدته مهابا في شخصه عظيما في فكره، إلا أنه كان قاسيا معنا، سألني ذات مرة سؤالا صعبا، فلم أجب عن سؤاله، فقال لي: لن تنجح إن بقيت هكذا، فكرهته وكرهت الدراسة معه، وسحبت المادة من عنده، وبقي عالقا في ذهني حاضرا معي، حتى إنني أراه في منامي، ولما اضطررت لتسجيل المادة معه بعد عامين، استعنت بالله عليه، وبذلت قصارى جهدي معه، فحصلت على العلامات الكاملة، وكنت أفضل طلابه، فسألته هل تذكرني من قبل يا أستاذ؟ قال: لا، فأخبرته بما كان، فابتسم في وجهي وقال: أنت اليوم لا أنت بالأمس!.

قسوة الأستاذ كقسوة الأب، أي في حزمه وشدته، فالأستاذ لا يحمل في نفسه على طلابه حقدا أو كرها، أبدا، فهو كما الأب تماما، ولا يكون إلا محملا بنجاحاتهم وتفوقهم، ويطمح أن يتعلموا منه العلم الصحيح، وأن يحاكوا أفعاله، ويقلدوا تصرفاته، فإذا نجحوا نجح معهم، وإن أخفقوا شعر بالإخفاق والفشل مثلهم. فالطلاب أنفسهم هم من يجعل للأستاذ مكانة، وهم وقوده ومفردات تفوقه وعطائه.

قبل سنوات، وعلى هامش إحدى المناسبات، قابلت أحد أساتذتي، فمازحته بلطف وقلت له: كنتم يا أستاذي العزيز قساة علينا، فقال: سامحني يا بني، لو كنت أعلم بلقائك اليوم وأنت في هذا المقام ما قسوت عليك أو على مثلك، فقبلت رأسه وقلت له: بل أنت يا سيدي أحد أسباب ما نحن فيه اليوم، بعد فضل الله وتوفيقه، وقد أبدو (أنا) قاسيا وشديدا في نظر البعض من طلابي أو في حدود المعقول، ولا بأس بذلك، ولكني أرجو منهم - رجاء أستاذي - أن يسامحوني، فما أنا إلا من أساتذتي، وما طلابي إلا مني، وقد طوفت بالآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالنجاح، والنجاح فقط!.

drbmaz@