علي قطب

هندسة المبنى الروائي في بساتين البصرة لمنصورة عز الدين

الثلاثاء - 23 أبريل 2024

Tue - 23 Apr 2024

تشيد منصورة عز الدين رواية بساتين البصرة وفقا لبنية هندسية تؤسس مساحة جمالية تتحمل الدراما وعلاقتها من جهة والأفكار واتجاهاتها من جهة ثانية، ويبقى البناء الجمالي جامعا للحكاية والأثر الأيدولوجي معا من جهة ثلاثة.
وهذه القراءة تفترض أن هناك وعيا بالنسق الروائي في النص يمنحه منطلقا لهوية خاصة به تلتقي فيها ثلاثية الجمال والدراما والفكر ونستدل على ذلك بمقولة من أول صفحة: "رفعت رأسي نحو السماء فرأيت قمرا مزدوجا، أو للدقة ينبعث انعكاسه بجواره بحيث يلتصقان معا كما لو أن هناك مرآة خفية تربط بينهما. لمحت انعكاسين آخرين لهما؛ أحدهما يمينا والآخر يسارا. اندهشت لأن سمائي تسكنها ستة أقمار، أو بالأحرى ثلاثة أزواج من الأقمار.".
هذه السداسية التي تعبر ثلاثة أزواج تتحكم في بنية الرواية التي تتكون من ستة فصول هي: "سماء تركوازية كما يليق بحجر كريم – شذرات من حياة يزيد بن أبيه – أيام تنفرط كحبات العقد – داخل لوحة شاجال – امرأة في الكرخ.. بيت على أطراف البصرة – خلف ضباب الجسد"
تسير الفصول الست على محورين أساسيين أحدهما للحاضر يتضمن قصة هشام خطاب وأمه ليلى وحبيبته ميرفت أو بيلا كما يسميها، والمحور الثاني للماضي في القرن الثاني الهجري مع انفصال واصل بن عطاء عن الحسن البصري وتتضمن شخصيات يزيد ومالك ومجيبة، ويحدث مزج بين شخصية هشام المعاصر الذي يعد الخط المحوري في الرواية وشخصية يزيد بن أبيه الذي قتله صديقه ليستأثر بامرأته التي تتركه بعد ذلك.
هذه الثلاثية المزدوجة تفتح بابا على ثلاثة أساليب للثقافة وهي: ثقافة النقل التي يمثلها الحسن البصري الوسطي المعتدل، وثقافة العقل التي يمثلها تلميذه واصل المعتزلي، وثقافة العالم الخلفي لهما وهو عالم اللاوعي التي يمثلها ابن سيرين بتفسيره للرموز المنعكسة في الأحلام والفنون.
من هذا التقسيم تستطيع منصورة عز الدين أن تضعك في عمق التاريخ وليس في أجوائه الزمنية فحسب، فداخل كل فترة زمنية هناك ثلاثة محاور فكرية تؤثر فينا بل قد يكون هذا التأثير داخل كل فرد، ونستطيع أن نلمحه في قلب كل عمل فني أيضا حين نفسره بوصفه محاكاة للحياة أو خطابا أيدولوجيا أو ظلالا للعالم الداخلي الفردي أو الجمعي.
بالإضافة إلى الخط الدال على أنماط الوعي بمراحله الثلاثية هناك خط آخر للحضور النسوي وخط للحضور الذكوري، فالحضور النسوي تمثله ثلاث شخصيات هي "مجيبة – ليلى – ميرفت" والذكوري يمثله "يزيد – مالك – هشام"، ولا توجد الخطوط منفصلة بل تقع في إدراك شخصية ما هي هنا شخصية هشام لكنه لا يسيطر عليها إنما تمتلك القدرة على الحديث بصوتها وبمرجعية زمنها، وبهويتها النفسية والاجتماعية لذلك فأنت تعايش في بساتين البصرة
أنماطا من الخطابات الدالة على مرجعية الشخصيات وأفكارها وأحوالها وعلاقاتها وتمضي معها في يقظتها وحلمها ولحظات توهجها الذهني وأوقات اغترابها حينما تنسحب تاركة بعض الأثر فيمن حولها.
ونلاحظ أن الحياة الفكرية تنبثق من مكون كلي كما تنبثق الشخصية الجنينية من الأم، فخروج المعتزلة من حلقة الحسن إمام أهل السنة يمثل انقساما يضيف إلى الحياة العقلية للمدينة الحافلة بالشخصيات العلمية في ذاك الوقت ومن هذا التعدد يأتي الحلم الذي يحتاج تفسير الحسن ويسجله كتاب ابن سيرين المعاصر له تماما، وتفسير الحسن للحلم يعني تكامل الحياة الذهنية والروحية لدى العالم الواحد مهما كان مرتبطا بمذهب معين ونزعة فكرية يتميز بها فابن سيرين لا يفسر الحلم وإنما الذي يفسره هو الحسن الذي تكاد تلتقي في شخصيته الاتجاهات المتنوعة ويحملها معه فقد خرجت منه وهو يدركها بفكره وخطابه.
في هذه الرواية تقدم منصورة للقارئ ما يمكن أن نصفه ببساتين السرد فالعالم الروائي لها يحاول أن يضم الماضي والحاضر في مزج داخل لا وعي الشخصية المعاصرة ليؤكد خطابها السردي أننا لا نعيش في سياق منبت ولا يمكن أن ندرك إنسانيتنا إلا داخل تيار متدفق في إطار حضاري تاريخي يشبه الخطاب نفسه أي يمتلك حرية الذهاب والإياب الجدلي بين الأزمنة مثلما يستطيع أن ينتقل بين الوعي واللاوعي وهو يحاول الغوص في عمق تجربة الحياة لاستخلاص جوهرها في العمل الإبداعي.
منصورة عز الدين تواصل اهتمامها بمنطقة اللاوعي التي تستغرق الذات المبدعة في تخيل العالم الجمالي وتترك كعادتها الشخصية المحورية على عتبات الجنون في تلك الأعراف الواصلة بين أزمنة مندثرة في الذاكرة ولحظات تومض في الفعل الإبداعي.