عبدالله السحيمي

الأثر الاجتماعي لوثيقة المدينة المنورة

السبت - 06 أبريل 2024

Sat - 06 Apr 2024


أكدت وثيقة المدينة على فكرة المواطنة وكان لها أثرها البارز في هذه الفكرة السابقة لعصرها، فالمواطنة هي الانتماء إلى أمة أو وطن، أي العضوية الكاملة المتساوية في التمتع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كل أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية دون أدنى تمييز قائم على أي معايير تحكمية، مثل الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي والموقف الفكري، وتشتمل المواطنة في مفهومها المعاصر على الانتماء والولاء، وامتلاك المواطن حقوقا اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية؛ فالمواطنة بشكل بسيط ودون تعقيد هي انتماء الإنسان إلى بقعة أرض، أي الإنسان الذي يستقر بشكل ثابت داخل الدولة أو يحمل جنسيتها ويكون مشاركا في الحكم ويخضع للقوانين الصادرة عنها ويتمتع بشكل متساو مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة التي ينتمي لها.

والمواطنة من المنظور الاجتماعي هي المكانة أو العلاقة الاجتماعية التي تقوم بين الفرد الطبيعي والمجتمع السياسي الذى يعيش فيه أي الدولة، ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول «المواطن» الولاء ويتولى الطرف الثاني الحماية.

أما من المنظور السياسي فالمواطنة صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى الوطن وأهمها واجب المشاركة المالية.

ويرى أحمد الطيب أن مصطلح المواطنة هو مصطلح أصيل في الإسلام، وقد نبعت أنواره الأولى من دستور المدينة وما تلاه من كتب وعهود لنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، يحدد فيه العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، وأن المواطنة ليست حلا مستوردا وإنما استدعاه لأول ممارسة إسلامية لنظام الحكم طبقه النبي عليه السلام، وفي أول مجتمع إسلامي أسسه هو دولة المدينة، هذه الممارسة لم تتضمن أي قدر من التفرقة أو الأقصاء لأي فئة من فئات المجتمع آنذاك، وإنما تضمنت سياسات تقوم على التعددية الدينية والعرقية والاجتماعية، وهي تعددية لا يمكن أن تعمل إلا في أطار المواطنة الكاملة والمساواة التي تمثلت بالنص في دستور المدينة على أن الفئات المختلفة دينا وعرقا هم أمة واحدة من دون الناس، وأن غير المسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.

إن وثيقة المدينة وإعلان المساوة وحقوق التناصح التي أقرتها جعل هناك جو من الثقة والحب يسود بين الناس وبين قيادة المجتمع ممثل في محمد صلى الله عليه وسلم، ففي غزوة بدر ذكر ابن كثير «قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن منذر بن الجموح قال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فامض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي».
ومن أهم ما ترتب على الوثيقة الإخاء بين المسلمين من مهاجرين وأنصار، والمساواة بينهم وسيادة روح من التكافل الاجتماعي، والمقصود هنا بالتكافل الاجتماعي هو تضامن أبناء المجتمع وتساندهم، سواء كانوا أفرادا أو طوائف، أو حكاما أو محكومين؛ وذلك بدوافع إيمانية نبيلة، تهدف إلى غايات كريمة، تنتهي إلى تحقيق الرعاية الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية لجميع أبناء المجتمع؛ وذلك بتوفير الاحتياجات الأساسية من مأكل ومشرب ودواء وكساء وتعليم، بالإضافة إلى مقاومة كل من يحاولون خرق سفينة المجتمع؛ كالمحترفين والمحتكرين والآكلين للأموال بالباطل بشتى الصور.

ومن دلائل التكافل الاجتماعي الذي وضعت الوثيقة أساسه، قصة عبدالرحمن بن عوف مشهورة، حيث قال (لما قدمنا المدينة، آخى رسول الله بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم لك نصف مالي... فقال له عبدالرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع، قال: فغدا إليه عبدالرحمن، فأتى بأقط وسمن، قال: ثم تابع الغدو.

فالثروة لم تكن هدفا في حد ذاتها بل إنها وسيلة لنشر السعادة بين الناس، فقد احترم الإسلام حق الضعفاء والفقراء في الحياة الكريمة قال تعالى {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} [الحشر: 7].

قال ابن حزم «فرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكاة بهم، ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر، والصيف والشمس، وعيون المارة.

وبرهان ذلك قول الله تعالى: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} [الإسراء: 26]. وقال تعالى {وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} [النساء: 36].

فأوجب تعالى حق المساكين، وابن السبيل، وما ملكت اليمين مع حق ذي القربى وافترض الإحسان إلى الأبوين، وذي القربى، والمساكين، والجار، وما ملكت اليمين، والإحسان يقتضي كل ما ذكرنا، ومنعه إساءة بلا شك؟ وقال تعالى {ما سلككم في سقر} {قالوا لم نك من المصلين} {ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 44].

فقرن الله تعالى إطعام المسكين بوجوب الصلاة.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة في غاية الصحة أنه قال: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله».

وترتب على وثيقة المدينة قيام علاقات اجتماعية إيجابية سليمة بين الناس وأكد عليه السلام عليها وعمل على تقويتها ومما يذكر عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال: يا رسول الله، أي الإسلام خير؟ قال «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»، كما أنه أكد على المسؤولية الاجتماعية تجاه المحيطين من الأهل والجيران فقال عليه السلام «أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله عز وجل».

حدثنا خيثمة بن سليمان: عن يحيى بن أبي طالب: عن أبوأحمد الزبيري: عن سفيان الثوري عن عبدالملك بن أبي بشير عن عبدالله بن أبي المساور، قال: سمعت ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه».

وإعلان المساواة في الحقوق والواجبات هو الذي دفع المصري الذي ضربه ابن عمرو بن العاص للشكوى لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - «عن أنس: أن رجلا من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين! عائذ بك من الظلم فقال: عذت معاذا، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب، فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين، قال أنس: فضربه، فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: ضع (السوط) على صلعة عمرو.

فقال: يا أمير المؤمنين: إنما ابنه الذي ضربني وقد استقدت منه؛ فقال عمر لعمرو: مذ كنتم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم ولم يأتني».

وهو الذي حمله أيضا على أن يقول بعد أن برئت نفسه من عصبية الجاهلية ومن التفاخر بالدم والآباء، ورقي في فضائل الإسلام رقيا ساميا، وذلك عندما طعن وأوشك أن يسلم الروح لباريها «لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته».

والواقع أن عمر رضي الله عنه في قوليه هذين ارتكز إلى منهج الإسلام الذي أخذه من الكتاب الكريم ومن النبي صلى الله عليه وسلم.

كما حقق في شكوى أحد الجند ضد الوالي عمرو بن العاص لأنه رماه بالنفاق، وأدان القضاء الوالي وأصدر أمرا بجلده حد القذف لولا أن الجندي عفا عنه.

كما غضب عمر على عمرو بن العاص لأنه أنفذ حد شرب الخمر على عبدالرحمن بن عمر بن الخطاب في بيته، والحق أن ينفذه علنا أمام الناس ليعتبروا، وتحقيقا لمبدأ المساواة أمام الشريعة.

وهذا يؤكد أنهم - أي الحكام المسلمين - لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس، بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر، بل مكثوا زمنا طويلا تحت تربية محمد صلى الله عليه وسلم وإشرافه الدقيق يزكيهم ويؤدبهم ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار على النفس وخشية الله وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها.

يقول: إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله، أو أحدا حرص عليه.
وترتب على وثيقة المدينة أن سار المسلمين على مبدأ احترام الآخر المختلف معهم في الدين، حيث احترم المسلمون أصحاب العقائد الأخرى ولم يفرضوا عليهم الإسلام.

يقول آدم منز عن الحضارة الإسلامية «لم تتدخل الحكومة الإسلامية في الشعائر الدينية لأهل الذمة بل كان يبلغ من بعض الخلفاء أن يحضر مواكبهم، وقد حض الرسول عليه السلام في العديد من الأحاديث على الحرص عليهم والرفق بهم وعدم ظلمهم.

وعن سليمان بن بريدة عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول في أهل الذمة (لهم ما أسلموا عليه من أموالهم، وعبيدهم، وديارهم، وأرضهم وماشيتهم ليس عليهم فيه إلا الصدقة) وقد أجمع العلماء قاطبة وعلى رأسهم فقهاء الشريعة الإسلامية على أنه يجب أن نعترف بالآخرين وأن لا نلغي الغير وهذا من مضمن كتاب ربنا، قال تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24].

وقد تمتع أهل الذمة بالحرية الدينية على مدار التاريخ الإسلامي.

ولكن تغيرت سياسة التسامح في عهود بعض الخلفاء مثلما حدث في عهد الخليفة الفاطمي الحاكم، حيث قام باضطهاد أهل الذمة وألزمهم بالشروط العمرية التي تنقسم إلى شروط مستحقة مثل: عدم ذم الإسلام - عدم ذكر كتاب الله بتحريف فيه - عدم تكذيب الرسول.

وشروط مستحبة مثل: لبس الغيار- أن يخفوا دفن موتاهم - أن يمنعوا من ركوب البغال والحمير.

ولم يلتزم أهل الذمة بتنفيذ مثل هذه الشروط، فاتخذ ضدهم أعمالا صارمة تتمثل في: أن يحمل النصارى صليبا طوله ذراع ونصف ووزنه خمسة أرطال، وأن يحمل اليهود الخشب، ومنعهم من تقديم النبيذ فيقرا بينهم.

كما أنه هدم كنيسة القيامة، وأرجع المؤرخون كل هذه الأعمال إلى تعصبه المذهبي أو اضطراب تفكيره، ولم يكن الظلم هنا يقع على أهل الذمة وحدهم بل وعلى المسلمين أيضا.


Alsuhaymi37@