بسمة السيوفي

كوبرنيكوس في رمضان

الثلاثاء - 26 مارس 2024

Tue - 26 Mar 2024

في السيارة.. الوجهة كانت الكورنيش للإفطار، الخطة سجادة على العشب وكراسي وبعض المساند مع فناجيل القهوة والتمر والماء و20 حبة سمبوسة، الهواء العذب يغويك بجمال الواقع فتجرؤ على النظر إلى جدة بشكل يختلف عن الجميع.. والنفس بحاجة إلى بساطة بعض المسرات.

في المقعد الخلفي يقبع الأحفاد.. باغتتني حفيدتي تسأل عن موضوع مقال الأسبوع.. وأنا إلى وقتها لم أكن أعرف عن ماذا سأكتب.. لأني بين أمرين إما أن أكتب شيئا يستحق القراءة، أو أن أفعل شيئا يستحق الكتابة.. قلت بلا تفكير: كوبرنيكوس! لا أعرف كيف خطر على بالي اسم الرجل في تلك اللحظة.. ردت باستغراب:»ايش» كوبرنيكوس؟ ويال جمال الدهشة في وجوه الأطفال.


حاولت تبسيط مالا يبسط في حكاية.. الحكاية تصنع جيلا مستعدا، قلت هو عالم من بلد اسمها بولندا، عاش منذ ستمائة عام تقريبا، اسمه نيكولاس كوبرنيكوس «شاطر في الرياضيات والكواكب».. أول من قال عن فكرة مركزية الشمس، وكون الأرض جرما يدور في فلكها.. وأن الأرض تدور حول نفسها أيضا، هو عظيم لأنه تبنى فكرة حاربها الجميع.. وهي أن حركة الأجرام السماوية يمكن تفسيرها بطريقة أفضل وأبسط إذا تركنا اعتقاد وجود الأرض في مركز الكون، تخيلوا قول ذلك بأبسط البسيط لطفلة صائمة عمرها 8 سنوات.. وأنت أيضا صائم وفي طريقك إلى الكورنيش.


ولا أدري ما شأن إثبات أن الأرض تدور حول نفسها، وأن القمر يدور حول الأرض، وأن جميع الكواكب في المجرة تدور حول الشمس.. بنزهة إفطار ممتعة يخطط لها مع الأحفاد.. حقيقة لم أكن أدري.. تماما كجهلي بموضوع مقال الأسبوع.. الكاتب يبدأ فكرة ولا تدري إلى أين ستأخذه أقدامه.. «الكتابة مثل الشعوذة لا يكفي إخراج أرنب من القبعة»، بل يجب عمل ذلك بإبهار السهل الممتنع.. فأنت لا تريد أن تتثاقف فوق الواقع.

المهم أنا وجدنا متكأ تحت شجرة نخل وارفة وفوق عشب أخضر.. فوضعت الكراسي الزرقاء مقابل البحر، وفرشت الجلالة وعليها كافة تجهيزات الإفطار.. هواء عليل وأناس كثيرون في كل مكان.. وأنا أحمل على ظهري عبء كوبرنيكوس ودلالات فعله.. أنظر إلى الأمواج المنتشية حضورا بين أحضاني.. وأساعدها على طوي الهموم بين أنفاسي.. أرقب السحب وأتحدث عن روعة ألوان الغيوم.. وهل إن رسمنا هذا المشهد في لوحة فنية كيف ستكون الألوان؟.. طلبت مراقبة أفول الشمس المتباطئ عند الأفق.. حتى تتوارى في المغيب.. عندها سيؤذن ونفطر، كنت أرقب أعينهم المتحمسة.. حتى صدح الآذان عبر الميكروفونات على طول الكورنيش، أفطرنا ثم صلينا، وجلست بعدها أرشف قهوتي الداكنة على الكرسي، وانطلقوا لمطاردة بعض فراشات الليل بين الشجيرات على أمل الإمساك بها، كنت أرقب الغيوم بأشكالها القطنية، لوحة مبهرة تجعلك شاخصا متأهبا للاحتفاء بظهور أي نجمة.. تبا لكوبرنيكوس فقد عاد ليحوم حولي وحان وقت حوار المخدات.. عادة قديمة تتطلب توسد العشب وتلحف السماء.

وتخيل أشكال الغيوم ورصد النجوم، أولها نجم «سيريوس» أو الشعرى اليمانية، وهو أكثر نجم ساطع في السماء، ثم «كانوبوس» أو نجم سهيل، وهو ثاني ألمع النجوم.. أظن أنهما يرحبان بنا أيضا في ليلة مقمرة.
سألتهم: كيف رأى كوبرنيكوس الكواكب والفضاء؟ قالوا: عنده تلسكوب.. قلت: إذن فقد تأكد تماما عبر ما يعرفه من معلومات يستطيع إثباتها أن الشمس هي مركز المجرة وليست الأرض.. وأن الكواكب تدور حولها.. وأن القمر يدور حول الأرض.. إذن كيف نكون متأكدين من معلومة؟ مثلا هل لون البحر أزرق؟

قالوا «أيوا» طبعا.. قلت إذن لماذا يسمون بحرنا البحر الأحمر.. وتوالت التخمينات البريئة والاندهاش اللذيذ.. قلت: عندما يكون لدينا ما يثبت المعرفة فيجب أن ندافع عن فكرتنا ما دمنا واثقين، تماما مثل كوبرنيكوس، وكل ما نراه في السماء.. كل ما يحدث لنا.. يعني أن الله سبحانه وتعالى خلقه لحكمة.. ونحن كبشر نراه ونشهد عليه، وأن الكون والحياة خلقا للإنسان.. طبعا كنت أقول ذلك بتبسيط كبير يلائم مراحل النمو ووهج الحماس.

وعودا على جهلي بما سأكتب عنه.. نبت زرع الفكرة.. بالرغم أني تغاضيت عن ذكر القطط التي كانت تحوم حولنا، وعن عامل النظافة الذي مر ليسلم علينا، والمرأة التي تعرض خدمات رسم الحناء، وسأغفل الكتابة عن الآيس كريم الذي لم نشتريه من أجل المقاطعة من المتجر إياه، وأننا تناولنا أيضا ملوخية ورز أبيض، ولن أخبركم عن المستهترين الذين تركوا المكان أسوأ بعد أن غادروا مليئا بمخلفاتهم من قوارير بلاستيكية ومناديل ورق.. أغفلت الكثير من التفاصيل؛ لأن سيرة كوبرنيكوس ومجده كانا أبرزها؛ لكن لن يفوتني أن أخبركم أن نظريات واكتشافات كوبرنيكوس ليست من محض أفكاره ولا اكتشافه الذاتي بل إنها تعود في أساسها للعالم العربي المسلم علاء الدين ابن الشاطر.. إلا أن صيت كوبرنيكوس الفلسفي والعلمي هو الأشهر كأفلاطون وأرسطو.

يقولون إن الكتابة هي أكثر الأحضان اتساعا، وأقول إن الكتابة ملاذ ينطق بما نهوى، حتى أمام العشب الصامت.. وتحت السماء الملبدة بالغيوم والنجوم الخرساء، هو أن تعثر على فكرة تكتب عنها في لحظة الشلل الكتابية.. أن تمتلك القدرة على الحياكة بخيوط اللغة المتينة؛ لأن المهم هو الاستمرارية، حتى لو مجدنا كوبرنيكوس لدرجة أن يعرف عنه الصغار، وحتى عندما ننطق في الصمت ونخبئ المعاني بين السطور.. هي أشياء يتولاها حدسك وتتولاها الأقلام.. حتى في عظمة الصيام.

smileofswords@