عبدالحليم البراك

ابن رشد والحقيقتان المتضادتان الصادقتان!

الاثنين - 25 مارس 2024

Mon - 25 Mar 2024

برغم أن ابن رشد الحفيد كرس نوعا جديدا من التوافق بين الفلسفة والدين، وكان في مصالحته هذه استخدم المجاز والتأويل في اللغة العربية للوصول للهدف بلا مبالغة تذكر أو كسر لمعاني اللغة وعسرها نحو الهدف، إلا أن متلقي العلم الرشدي في أوروبا، وخاصة الرشديين منهم حاولوا أن يروموا هذه الفكرة في الفكر المسيحي ولكنها – والذي يظهر – أنها لم تكن بهذه البساطة مما جعلهم يقولون بالحقيقتين المتضادتين الصادقتين، والتي تعني أن ثمة حقيقة تضاد أختها، فالمعروف في المنطق أن الوصفين المختلفين لشيء واحد إما أن تكون الأولى صادقة والأخرى كاذبة، أو العكس، ولكن الرشديين اللاتين حاولوا خلق هذه الحقيقة التوافقية كبديل لتوافقية ابن رشد والإسلام (التوافقية بين الحكمة والشريعة)، وبغض النظر عن فكرة ابن رشد، فقد لاقت هذه الفكرة صعوبات خطيرة للغاية في الفضاء الأوروبي المسيحي.

أحدها أن العقل البشري البسيط لا يمكنه قبول حقيقيتين متضادتين ويزعم أنهما صادقتين بنفس الوقت، وإن اختلف مصدر هاتين الحقيقتين، فإن كان مصدر الحقيقة الأولى هو الكتاب المقدس، والحقيقة المضادة مصدرها العلم، فإن الرشديين يقولون بصدق كلا الحقيقتين وهذه هي محاولتهم التوفيقية!

يبدو أن زلزال ابن رشد قد ترك أثره بشكل مباشر على الثقافة اللاتينية، وهي اللغة التوافقية بين الدين والعلم، أو بين الدين والفلسفة/ الحكمة (في وقت كانت ثنائية العلم والفلسفة لا تمايز بينهما) والسؤال الذي يطرح نفسه هل هذا يعكس فكر ابن رشد؟. بالتأكيد لم يعكس هذا فكر ابن رشد بأي حال من الأحوال، وإن التوافقية المنطقية والعقلية والنصية هي هدف ابن رشد وقد حازه حرفيا، - على الأقل من خلال وجهة نظره - من خلال تأويل النص القرآني (اللغة العربية غنية وقادرة على تحمل تأويل كبير جدا يقوم به علماء ربانيون عالمون بها وبالشريعة «ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم» بعكس اللغات الأخرى).

يقول الجابري «إن ابن رشد لا يقول بحقيقتين إحداهما للخاصة والأخرى للعامة كما يزعم بعض الكتاب، بل يؤكد على أن الحقيقة واحدة، ولكن إدراك العلماء لهذه الحقيقة الواحدة يختلف عن إدراك الجمهور لها وهذا الاختلاف في إدراك الحقيقة والوعي يرجع فقط إلى المستوى المعرفي للشخص لا إلى شيء آخر» (محمد عابد الجابري «نحن والتراث» ويعيد نفس هذا الكلام في كتابة ابن رشد سيرة وفكر)، لكن لفرح أنطوان كلام، يقول في كتابه «فلسفة ابن رشد» ولكن هل النفس خالدة أم لا في هذا المذهب، وهل كان ابن رشد يعتقد بحياة ثانية؟ ربما كان لابن رشد جوابان على هذه المسألة الخطيرة، التي هي الآن من دعائم الإنسانية، فإنما في أثناء مطالعتنا لبعض كتبه قبل الإقدام على ترجمته، رأينا له في عدة مواضع كلاما يدل أصرح دلالة على اعتقاده بالحياة الثانية حتى بالعقاب والثواب - أيضا - فعجبنا كل العجب من تكفير الناس رجل يرى هذا الرأي، ولكننا لما وصلنا إلى مذهبه الفلسفي ورأينا متابعته لأرسطو فيما يختص باعتقاده بالنفس وخلق الكون، تغير وجه المسألة ذلك أن ابن رشد كان يكتب هناك كرجل مؤمن خاضع لتقاليد آبائه وأجداده فهو يكتب بقلبه لا بعقله، أما عند بحثه بالعقل عن مصدر العقل وعلة العلل، فقد كان يكتب كفيلسوف يدخل بجرأة الأسد إلى كهف الحقيقة المحجبة ولا يبالي» مع هذا كله لم يكن يؤمن بالحقيقتين المتضادتين بل كان بارعا بالتوفيق بينهما مستخدما سلاحا أرسطيا بارع الحدية!

مهما يكن من أمر، لم يكن من المنطقي - في ذلك الوقت على الأقل - أن ينجح هذا الأمر مع النص الديني المسيحي، فاختار المسيحيون نمطا مختلفا - لكنه توافقيا وفق المنهج الرشدي - وهو قبول نصين متناقضين ووصفهما بالصحة، وبذلك تعتبر هذه اللغة التفسيرية مقبولة في الثقافة المسيحية ردحا من الزمن، على الأقل لدى جمعا منهم، ولم تنجح لسبب بسيط متناه للغاية أن سحر العلم والفلسفة والعقل في أوروبا جعل من المؤمنين بهم إيمانا مطلقا يقبلون تعثر النص الديني لكن لا يقبلون تعثر العلم؛ لأن العلم والعقل تؤيده الأدلة العقلية والمنطقية والحسية والتجارب، بينما لا يدعم النص الديني سوى النص والإيمان.

من هنا جاءت الحرب على الرشدية اللاتينية لهذا السبب (قبول حقيقتين متناقضتين) والآخر هو قبول الطريقة الرشدية في التوفيق بين الشريعة والحكمة (وفق التبرير الرشدي) وإسقاطه على العقيدة المسيحية!

Halemalbaarrak@