هند علي الغامدي

على رغم أنف اللسانيات

الاحد - 24 مارس 2024

Sun - 24 Mar 2024

اصطفى الله الأنبياء من بين البشر لحمل الرسالة السماوية وتبليغها؛ ولأنهم بشر يأكلون كما يأكل الناس، ويشربون كما يشربون، ويمارسون بشريتهم التي فطرهم الله عليها، لأجل ذلك لم يتقبل أقوامهم هذا الاصطفاء، وفي القرآن قصص وآيات متعددة تصف موقف أقوامهم منهم ومن رسالاتهم، واعتراضهم على اصطفائهم، وتصف استكبارهم على الحق، وحسدهم الأنبياء على ما آتاهم الله من فضله، ولكن ذلك كله لم يؤثر على حقيقة اصطفائهم وأنهم أفضل البشر.

وكما أثبت القرآن الكريم تلك الحقيقة للأنبياء، أثبت أيضا حقيقة التفاضل بالتقوى بين البشر عامة؛ فالتقي أكرم الناس عند مولاه، مع أنه لا يختلف عن بقية الناس في خلقه من طين وفي مظاهر ذلك الخلق؛ وعليه؛ فالأنبياء بشر ولكنهم أفضل البشر، والأتقياء بشر ولكنهم أكرم البشر عند خالقهم، لا خلاف في ذلك، وأزعم أن هذا متفق عليه لدى الجميع، فما بالنا إذا جئنا إلى اللغة العربية رفضنا مفهوم التفاضل والاصطفاء، وأخذنا نردد ما يقوله اللسانيون عن تساوي اللغات وعدم التفاضل بينها، متجاهلين الحقائق الدامغة التي تثبت أفضليتها؛ ابتداء من اصطفائها لتكون لغة القرآن الكريم؛ خاتم الكتب السماوية وحامل الرسالة الإلهية التي أرسل بها نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة؛ العرب منهم وغير العرب، وإلى قيام الساعة، ومرورا بالآيات التي وصفت النص القرآني بأنه عربي، ووصفت لسانه بأنه عربي، ووصفت اللسان العربي بالإبانة؛ أي الوضوح، وعلى الرغم من أنَّ بعض التفسيرات ذهبت إلى تفسير لفظ «عربيا» و»عربي» بالوضوح أيضا، وأخرجته من نسبته إلى العرب الذين نزل بلغتهم، نافية أن تكون اللغة العربية هي المقصودة، إلا أن نزوله باللغة العربية نفسها يؤيد التفسيرات التي ذهبت إلى أن المقصود هو اللغة العربية، إضافة إلى أنه أنزل على نبي عربي، فمن المحتم أن يكون عربيا؛ لأن سنة الله جرت على أن يرسل كل رسول بلسان قومه، إلا أن الله سبحانه وتعالى اصطفى رسوله محمدا من بين الرسل-عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام- ليكون خاتم الرسل والأنبياء، واصطفى رسالته لتكون عالمية إلى الناس كافة وليس إلى قومه فقط، ونسخ بالقرآن الكريم ما لم يحرف من الكتب السماوية السابقة، واصطفاه ليكون عالميا؛ فاقتضى ذلك عالمية لغته، ولاسيما أن القرآن لا يقرأ إلا بالعربية، ولا تؤدى الصلاة إلا بها، وكذلك الشهادتان وسائر الأذكار والأوراد التوقيفية.

صحيح أن اللغة العربية تشترك مع بقية اللغات في طبيعتها؛ كونها -كما عرفها ابن جني-» أصوات يعبر بها كل قوم عن غاياتهم»، وفي أنظمتها اللغوية، ووظائفها المتعددة، وصحيح أن بينها أوجها متعددة تتفق فيها تشابها، إلا أن بينها أيضا أوجها متعددة تختلف فيها، ومع كامل التحفظ على طبيعة ذلك الاختلاف، وعلى رفض كثير من علماء اللسانيات الاعتراف بما أظهره ذلك الاختلاف من تميز اللغة العربية في عدد من الجوانب؛ فهذا ليس هو ما نريد الوقوف عليه هنا؛ لأن ما تختلف به اللغة العربية عن اللغات الأخرى تميزا وتفوقا ظاهر جلي أقر به المنصفون من العلماء والباحثين العرب وغير العرب قديما وحديثا، ويمكن العودة إليه في مظانه، وإنَّما ما نرمي إليه في هذا المقام هو التأكيد على حقيقة تفضيل اللغة العربية التي أثبتها اصطفاء الله لها، وتميزها الذي أهلها لذلك الشرف على رغم أنف اللسانيات واللسانيين الذين يرفضون الاعتراف بتلك الحقيقة وذلك التميز، كما رفضوا ما أثبته البحث المنصف من فرادة اللغة العربية وتفوقها في جوانب متعددة بدعوى عدم تفاضل اللغات؛ في الوقت الذي يمجِّد فيه بعض أقطابهم الإنجليزية ويدسون الثناء عليها وتفضيلها - بوصفها لغة - بين السطور، وليس من غاية هذا المقال الحط منها أو من أي لغة، ولا حتى عقد مقارنة بين العربية وغيرها فيما تشترك فيه اللغات جميعها؛ بل غايته لفت الانتباه إلى تلمس الحكمة الإلهية في اصطفائها، وإلى أن ما قرره اللسانيون بشأن اللغة العربية ليس منزلا، وإنما هو اجتهادات بشرية قابلة للمناقشة والنقض والنسف أيضا.

والحقيقة أنني لا أجد سببا يمنع غير العرب من اللسانيين وغيرهم ممن يرفضون هذا التفاضل لصالح العربية إلا حسد العربية على تميزها الذي لم يكن للغتهم وكان لها باصطفاء إلهي؛ كما حسد الأنبياء من قبل على اصطفائهم، وللأسف تابعهم كثير من الباحثين العرب والدارسين على أيديهم والمنبهرين بثقافة الغرب وعولمة لغتهم في الوقت الحاضر؛ بل لم يتورعوا عن تسفيه البحث في تفضيل اللغة العربية سواء أكان لمقوماتها وخصائصها التي انفردت بها تاريخا أو مخارجا وأصواتا أو جذورا وكلمات أو بلاغة وأساليب أو غيرها، أم لأنها لغة القرآن الكريم، واتهموا بالجهل كل من خالفهم الرأي.

ومع أن هناك مجموعة من الأسباب السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها من الأسباب المشروعة التي تقف وراء تفضيل الشعوب للغاتها ودفاعها عنها؛ إلا أن اللغات لا تتفاضل بتلك الأسباب أبدا؛ فليست الإنجليزية اليوم هي الأفضل على الرغم من انتشارها بسبب العولمة وسيطرتها بسبب منجزات أهلها وقوتهم السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والمعرفية؛ لأن هذه الأسباب قد تزول في أي لحظة فتزول معها مكانة الإنجليزية؛ فلا ميزة خاصة للغة الإنجليزية ولا لغيرها من اللغات في ذاتها، بينما العربية اكتسبت هذه الميزة باصطفائها لتكون لغة القرآن الكريم، وهو ما يعد شهادة أبدية لها بالأفضلية بغض النظر عما يمكن أن يبحث على الصعيد المادي من خصائصها ومقوماتها ومقارنتها باللغات الأخرى؛ فهذا جانب آخر يتنازع فيه اللسانيون ونقر لهم بأحقية البحث فيه، مع التذكير دائما بأن الاصطفاء لابد أن يكون لتميز المصطفى.

ولا بد من التفريق بين مشاعرنا تجاه لغتنا العربية وحبنا لها واعتزازنا بها ودفاعنا عنها بصفتها لغة ديننا ووطننا وتاريخنا ورمز هويتنا الإسلامية والعربية والوطنية، وهو ما نشترك فيه مع أصحاب اللغات الأخرى في حبها للغاتها، وبين الحقيقة الكونية الواضحة التي لا علاقة لها بالمشاعر والعواطف وهي أن اللغة التي اختصها الله-سبحانه وتعالى- بحمل كتابه المعجز الخالد هي أفضل اللغات شاء من شاء وأبى من أبى، وهذا لا علاقة له بتقديرنا واحترامنا للغات الأخرى، ولا بإقرارنا بأهمية تعلمها ولاسيما العالمية منها، وعلى رأسها الإنجليزية، ولكننا نتعلمها ونتقنها إلى جانب لغتنا العربية، وليس قبلها، ولا بدلا عنها.

أعتقد أن كثيرا منا اليوم يعاني من إعجاب كامن باللغة الإنجليزية وإحساس مختبئ هناك في العقل الباطن بتفوقها، ولكن العقل الواعي يجب أن يفرق بين التفوق الطارئ بسبب الظروف الحضارية وتبعاتها، والتفوق الدائم المنسوب للغة ذاتها؛ فالأول يمكن أن يكون لأي لغة؛ فهو اليوم للإنجليزية وغدا للعربية أو غيرها، أما الثاني فليس إلا للغة العربية لغة القرآن التي شرفها الله به ومن علينا به، وبها، وما علينا إلا استيعاب ذلك، والحرص على عدم إضاعتها ولا سيما على ألسنة أبنائنا، وعلى إعطائها حقها من الإتقان والتمكين الذي يحتاج إلى تعليم يحققه، وإعلام يطبقه، وأسر تتبناه وتسهم في إنجاحه، ومجتمع واع يدرك ألا نهوض له ولا صدارة ولا مستقبل مشرف إلا بلغته العربية.