علي قطب

هالة البدري.. سؤال الجندرية وما بعد الرواية

الاحد - 24 مارس 2024

Sun - 24 Mar 2024

قدمت الأديبة المصرية هالة البدري في روايتها "نساء في بيتي" عملا مغايرا لما طرحته من أشكال التعبير السردي، وصنعت به عمارتها الإبداعية سواء أكان ذلك في القصة القصيرة أم في الرواية، لأنها تعاملت بوعي نقدي مع الشكل الإبداعي نفسه من خلال قراءة متعددة المحاور تجمع بين التوجه العلمي في الدراسة الأدبية من منظور الدرس المقارن ومحور ما وراء الرواية الذي يتعلق بعملية الصنعة الإبداعية نفسها بما فيها من مرجعية واقعية ومتخيل يستلهم اللاوعي، بالإضافة إلى بحثي بصدد شخصيات مرجعية حقيقية في التاريخ الثقافي شرقا وغربا من بينها شخصيات أعلام فكرية لها مواقفها التنويرية مثل طه حسين (1889م – 1973م) وشخصيات أدبية من الثقافة الغربية مثل انجبورج باخمان (1926م – 1973م) وماكس فريش (1911م – 1991م) بالإضافة إلى الفنانة التشكيلية الأمريكية جورجيا أوكيف (1887م – 1986م) وزوجها الفوتوجرافي ألفريد ستيجليتز (1864م – 1946م)، واستتبع ذلك دخول شخصيات ثانوية كثيرة من عالم الأدب والفن التشكيلي أيضا، يضاف إلى هذه المحاور الخط السيري للكاتبة نفسها الذي دخل إلى عالم الرواية باعتبارها تقوم بالحديث عن فن صناعة الرواية داخل النص، وتتعرض لسير نسوية تشترك معها في السعي لتحقيق الذات مهما وقف السياق المجتمعي بتقاليده حائلا دون ذلك، فعن طريق الترابط والتداعي والمقارنة دخلت مرجعية المؤلفة نفسها إلى عالم السرد بوصفها شخصية واقعية راوية، وتشارك الرواية في تكوين هويتها الإبداعية التي لا يمكن أن تنفصل عن وجودها في العالم الخارجي.
منذ العنوان يحدث الحضور القوي الواضح لشخصية المؤلفة الساردة التي تصنع النص من داخله، ولا تفصله عن عالمها الواقعي مع استثمار التقنيات الفنية التي تدمج المرجعي بالمتخيل لتقوم بعمليات الترميز التي تكسب النص ثراء يكشف طبيعة العملية الإبداعية ويلقي الضوء على قضايا المرأة وعلاقتها بالآخر، بالإضافة إلى ارتباطها بمتوالية من الشخصيات النسوية التاريخية التي تحققت بممارسة الإبداع والحب وتحدي التقاليد الاجتماعية بتسليط الضوء على الجوانب المغلقة التي تفرض على المرأة التقوقع في سياق خاص حاولت المبدعات اللائي اجتمعن في بيت هالة أو روايتها مقاومة هذا الحصار وإضاءة البيت من داخله؛ لكي يتجلى النور في الفضاء المجتمعي بشكل عام، ولدى كل قارئ للرواية بشكل خاص. فكلمة بيتي في العنوان تشير إلى الرواية نفسها أي أن المبدعة تسكن روايتها وتستضيف فيها من تشاء من المبدعات، وكل واحدة لديها شخصيات محيطة بها وعالمها الشعوري الذي لم يحدث له التفريغ الكامل ويحتاج إلى عقل يتحرك بالخيال لكي يستطيع أن يتصور ما يدور في تلك النفوس المغتربة، فالعلاقة بين السكن الإبداعي والسكن الاجتماعي في عالم المرأة تجعل الإبداع بيتا له معماره وجمالياته وخصوصيته، في هذا السياق التعبيري نجد العلاقة بين المرأة والبيت واضحة جلية مهما بدا في المرجعية النسوية المعاصرة من الحديث عن دور المرأة في العالم الخارجي، فالبيت هو وحدة التحقق في عالم المرأة مثل البيت الذي كان وحدة المعنى في القصيدة القديمة، وهالة البدري تدرك جيدا أن البيت هو الذي يصنع الشعور والعقل والتاريخ، لذلك جاء البيت علامة جلية في العنوان متجاوزا دلالته الحضارية الاجتماعية بوصفه المكان الأسري إلى معنى آخر هو التحقق الفكري والجمالي، يضاف إلى ذلك حرص الكاتبة على أن تقيم في العالم الروائي برحابته الشاسعة كيانها الخاص مثل الصالون الذي كانت تقيمه الأديبات السابقات عليها وأشهرهن مي زيادة وقوت القلوب الدمرداشية التي لها حضور كبير في الرواية بينما يخفت حضور مي الأكثر شهرة في السياق التاريخي، وبهذا يكتمل صالون هالة البدري في الفن والحياة، وتؤدي دورها في ترسيخ قيمة الجمال بوصف الإبداع أسرة، وبوصف المرأة العنصر المهم الذي تضاء بحضوره مدينة الإبداع مع اعتزاز خاص بنسبة البيت إلى الذات، وداخل الرواية يبدو الوعي بكون العمل الإبداعي هو بيت المبدعة في فصل عنوانه "بيت جديد"، تتحدث فيه المؤلفة / الراوية / البطلة عن ترتيبها لبيت جديد تحدد موضع كل شيء فيه بدقة ليكتسب قيمته الجمالية أمام من يأتي إليه، والمقصود بالبيت الجديد هو الرواية نفسها التي تتكون مثل جنين ينمو ونراه أمامنا وهو يتشكل.
ترصد الكاتبة تحولا عندها وهو توجهها إلى عالم المرأة مع أنها لا تفضل التصنيف الإبداعي القائم على الجندرية، فالهوية الأدبية تجمع أصحاب الرؤى الفكرية والجمالية معا بصرف النظر عن القضايا التي يمكن أن تكون أكثر وضوحًا عند فئة تنتمي إلى تيار ما، بالإضافة إلى حرص الكاتبة في الجزء السيري الذي يقابله المتلقي عبر سطور الرواية في فضاءات مختلفة لحرصها على الإشادة بدور الأب في تكوينها مثلما حدث بدرجة ما في حياة أديبات كثيرات منهن من تناولتهن الكاتبة في الرواية، وهذا يعني أن التكوين الروحي والذهني للذات لا يخضع بحدة تصنيفية للثنائية الثقافية التي تفرق تماما بين إبداع كل جنس؛ لأن الهوية الثقافية تركيبة متكاملة، ولأن الوعي الإبداعي يرتبط بقضايا السياق، ولأن كلمة المبدع تقدم للإنسانية كافة، هذا هو الموقف العام لهالة البدري، لكنها تنطلق في هذه الرواية من عالم المرأة، وفي الوقت نفسه لا ينبت هذا العالم عن الرجل كونه شريكا في الأسرة والعاطفة والتاريخ، فالكتابة عن شكل شخصية نسوية تطلبت إلقاء الضوء على شخصيات ذكورية متعددة في حياتها من الجد للأب للزوج للابن لأصدقاء في عالم الإبداع، فلم تكن هالة البدري متعصبة في قراءتها لمفهوم الهوية النسوية، ويمكن القول إن اختيارات الكاتبة جاءت لتنزع القناع عن ما يحاول المجتمع أن يجعله من القيم الثقافية الخاصة بالرجل على مستوى الأدوار والوظائف أو العكس، فطرحت القضايا العاطفية والاجتماعية والسياسية برؤية متكاملة تتبادل فيه الشخصيات المواقع أو يمكن أن تكون الشخصية عابرة لقيود الدور الاجتماعي.
بالإضافة إلى المعلوماتية الثقافية التي وفرتها الكاتبة للقارئ ليس عن طريق الوسائط الرقمية فقط إنما بحس صحفي نابع من مهنتها في الاعتماد على مصادر للبحث والتوثيق والمراجعة مما أدى إلى طرح قضايا كثيرة بصدد النصوص الإبداعية وتحريرها وترجمتها أو دراسات الأدب المقارن التي تثير الأسئلة، وربما لا تصل إلى إجابة مقنعة بالنسبة للأديب الذي وجد نفسه في موضع تقابلي مع آخر ربما يكون نتيجة قراءة عابرة أو بسبب تشابه ظاهري، كذلك مراجعة مرويات أدبية اختلط فيها التاريخي بالمتخيل، بالإضافة إلى ذلك فقط استطاعت هالة البدري أن تقيم عالما فيه جماليات تعبيرية ذات طابع رمزي مثل بنية الرواية التي جاءت مناصفة بين عنوان أساسي هو "عندما يأتي المساء" وعنوان أساسي آخر هو "في الليل لما خلي"، وهما أغنيتان لمحمد عبدالوهاب يتصلان بالعالم الليلي الذي يعد مجالا للتأمل والإبداع وإقامة الصالون الأدبي، ويستحضر الليالي العربية وهي أشهر النصوص السردية في تاريخ الأدبي العالمي، هذه الدقة في الاختيارات الفنية نجدها في العنوان الأول داخل "عندما يأتي المساء" وهو عنوان "احتراق" الذي يبدأ بالخريف واصفا المكان الذي ماتت فيه "بخمان" محترقة، لكن الخريف له دلالته المرتبطة بالليل والمساء باعتباره فترة مراجعة لما قدمته الذات في الربيع والصيف وفي النهار، والاحتراق له دلالته في الإشارة إلى حالة التوهج الروحي التي ينشأ منها الإبداع مثلما حدث في شعلة المعرفة التي اختطفها بروميثيوس، فالرموز المكانية والزمانية لها علاقة بالعالم الإبداعي واللحظة التي تولد فيها الرواية، فضلا عن ذلك جاءت الرواية متعددة الأصوات يندرج بينها صوت المؤلفة نفسها باعتبارها شخصية محورية تقوم بصناعة رواية وتستعين برسائل من الشخصيات وتحاورها وتبوح لها وتكتب فقرات عن استراتيجية العمل الروائي نفسه أي تعد الرواية نموذج يتجلى فيه مفهوم ما وراء القص واستحضار شخصيات تاريخية بخاصة نسوية لعالم الروائية ومشاركتها في حياتها الشعورية يفتح قناة اتصال المؤلفة بوصفها شخصية واقعية والساردة بوصفها المؤلف الضمني أو المنسق الذي يقم بصياغة العمل من داخله، وهذا المجال يتجاوز الرواية التقليدية ورواية التحقيق والرواية التاريخية ويكرس لرواية جديدة تقيم اتصالا بين المؤلف والتاريخ والمتلقي.