خليل الشريف

المعلم والذكاء الاصطناعي، لمن الغلبة؟

الخميس - 21 مارس 2024

Thu - 21 Mar 2024


في ظل تسارع وتيرة تطبيقات الذكاء الاصطناعي في العديد من المجالات وربما من أهمها المجال التعليمي، تزداد التساؤلات إذا ما كان سيبقى للمعلمين من دور جوهري في عمليات التعليم والتعلم للطلاب؟ فإذا كان بالإمكان توفير أداة تقنية ذكية تتميز بقدرات مذهلة في استيعاب التخصص والمعارف والمعلومات بحداثتها الفورية، وكذلك تحليل شخصيات المتعلمين ومعرفة نقاط قوتهم ومواهبهم وإبداعاتهم مما يجعل هذه الآلة قادرة بكل إتقان على تحقيق فكرة تفريد التعليم التي كانت عملية مستحيلة في أشكال التدريس والتعليم التقليدي عبر عقود من الزمن.

وإذا كان بإمكان هذه الأداة التقنية الذكية تحليل جوانب العملية التعليمية بكل أركانها من الطالب والمقرر والبيئة وأساليب التقويم، والتمكن من الوقوف على مشكلات التعلم في الصف وتحديدها تحديدا دقيقا وطرح مقترحات متنوعة ومبتكرة لحلها. إذا كان بإمكانها تقويم أي عدد متخيل من المتعلمين والتعامل مع أي رقم من حيث حفظ البيانات والمعلومات والمدخلات الخاصة بالطلاب ومعالجتها وتحليلها واستخراج النتائج وربطها بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي المحلي والعالمي ومستهدفات التعلم والنواتج المرجوة.. وإذا كان بإمكانها تقديم أفضل العروض والأنشطة والتمارين واستراتيجيات التدريس المتنوعة والوسائل الممكنة لأفضل أشكال التعلم والبيئة الافتراضية المعززة التي تجعل الطالب يعيش ما يتعلمه ويخوض تجارب تعلم لأي فكرة نظرية كانت حتى ولو كانت في مجال الخيال العلمي أو المستقبل.. إذا كانت هذه التنقية قادرة على وضع أفضل خطط التدريس لكل أنواع وأنماط المتعلمين ومتابعة تقدمهم في التعلم ورصد تحسن نتائجهم وتغير سلوكهم بدقة وبدون أي أخطاء.. يا إلهي! لو اجتمع جميع معلمي العالم لن يكون بمقدورهم العمل وفق ما تقدمه مثل هذه الأداة أو الآلة.. ماذا سيكون المعلم أمام مثل هذه الآلة أو الأداة الذكية؟؟ ربما في هذه الحالة يكون المعلم هو (الأداة) ويكون الذكاء الاصطناعي هو (المعلم)!
إن هذا تحد يفوق كل التوقعات ومهنة المعلم حقيقة هي في خطر! إذا كنا نتحدث عن المعلم العادي أو ضعيف الأداء قطعا لن يكون قادرا أن يجاري هذا التحدي وربما ستكون المؤسسات التعليمية مضطرة للبحث عن بديل أفضل.

إن التحدي الذي نشير إليه هنا ليس المقصود منه هو أن يكون المعلم قادرا على توظيف هذه التطبيقات الذكية أو متمرسا في فهمها والتعامل معها.

هذه مجرد (فاصلة منقوطة) في كتاب يضم آلاف الصفحات؛ بل من المتوقع جدا أن تكون تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التعليم سهلة الاستخدام وربما أسهل من استخدامنا لتطبيقات التواصل الاجتماعي.. فما الذي يصنع الفارق الذي يجعل بقاء المعلم ضرورة ملحة؟
أولا: المعلم القدوة
لن تستطيع أي أداة الكترونية ذكية مهما بلغت من الذكاء أن تكون قدوة للطلاب.
إنها لن تستطيع (الإلهام) إلا من خلال مواد عرض مهما بلغت من الجودة والاستعانة بقصص بشرية مؤثرة وملهمة إلا أنها لن تصل أبدا في فاعليتها مثلما يكون المعلم القدوة حاضرا بشخصه أمام طلابه، يراقبون سلوكه وشخصيته وملامحه وتعابيره وأفعاله وأقواله ومن ثم يحدث ذلك التواصل الذي يلامس الوعي والإدراك والمشاعر في صورها السامية والعليا.
في مثل هذا الدور تحديدا لا يمكن الاستغناء عن المعلم أبدا.. إن المعلمين عبر التاريخ ارتبطوا بفكرتين رئيسيتين على مستوى التأثير الاجتماعي (الإلهام – القدوة)، ومتى ما سلمنا الأجيال إلى الآلات والمواقع الافتراضية والتطبيقات التي لا تشبع ولا تلامس هذه الرغبة الإنسانية للمعلم القدوة والمعلم الملهم فلا نتوقع مخرجات تعليمية ذات أثر اجتماعي حقيقي.
قد يمتلك المتعلمون الخبرات والمفاهيم والمعارف والتجارب والمعلومات لكنهم سيفتقدون للمعنى والدافعية والشغف والمثل العليا والأحاسيس الإنسانية الكبرى.

ثانيا: التواصل الإنساني الفعال والبيئة المحفزة
يخلق المعلم المتمكن أجواء عالية جدا من التواصل المعنوي والحسي والروحي داخل الفصل. هل يمكن للآلة مهما بلغت من الذكاء أن تخلق أجواء من المرح في التعلم هل يمكنها أن تغذي الإيجابية والتعاون هل تستطيع أن تدرك مدى التقدم في العلاقات والتواصل الإيجابي تحديدا في بيئة الصف؟
تشير الدراسات عن قدرات الذكاء الاصطناعي مستقبلا إلى أنه سيكون قادرا على قياس التفاعل الصفي وقياس مشاعر المتعلمين من التعابير اللفظية وغير اللفظية، إن هذا ممكن قد يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يكتشف بأن هذا الفصل يحوي طلابا محبطين أو متحمسين أو كسالى أو متفاعلين.. لكن التشخيص لن يكون مفيدا ما لم تكن هناك وسيلة للتعزيز أو المعالجة، وهذه أعمق وأهم وظائف وأدوار المعلم.. يقوم المعلم المتمكن بإشعال جذوة الرغبة في التعلم، إنه الوحيد القادر على أن يجعل المادة محببة للطالب وأن يصورها له بشكل مبسط ومفهوم ومقبول.. يستطيع المعلم إيجاد بيئة يسودها المرح والتواصل القوي بينه وبين الطلاب وكذلك بين الطلاب وبعضهم بعضا.. هذه أمور ليست محصورة بالروح المعنوية داخل الفصل فحسب؛ فالملل والرتابة والخوف واليأس والإحباط والتحفيز والثقة والشجاعة كلها مشاعر ذات علاقة بالإدراك ومستويات متنوعة من الوعي وفي هذا الصدد لا تتمكن الآلة إلا التقاط المؤشرات المحسوسة أو المنطوقة أو المكتوبة ما عدا ذلك فهناك مستويات كبيرة وعديدة من الإدراك والوعي والإحساس، البشر أنفسهم لا يزالون يجهلون كنهها وسرها وهم يعايشونها ويعيشونها منذ آلاف السنين، وقطعا مهما بلغ الذكاء المادي الاصطناعي للتقنية لن يصل ولا يمكن له أن يقترب من ذلك.

ما يتحتم العمل عليه حاليا من قبل المؤسسات التعليمية أن تبدأ فعليا بالتفكير ليس في السؤال الذي سطرناه في عنوان المقال والذي يتساءل حول إمكانية الاستغناء عن المعلم مستقبلا؟ فهذا سؤال يتضمن إقرارا خاطئا جدا بأن المعلم الإنسان لا يملك ما يميزه عن الآلة الذكية.. يجب أن يكون منطلق تفكيرنا كيف نطور المعلم واستبقاء دوره الذي لا غنى عنه من خلال نقاط القوة التي يمتلكها في تفاصيل العملية التعليمية ولا يمكن للآلة أن تنافسه فيها.

برامج إعداد المعلم في غالب دول العالم ما زالت تنطلق من كفايات المعلم وفق تصورات الماضي عن دور المعلم في العملية التعليمية.

إن التغيرات التي سنراها في المستقبل في أدوار المعلم كبيرة وعميقة. إنها تحدث الآن بالفعل وما يحدث الآن بالفعل هو أكثر ما يمكن أن يمدنا بالقدرة على التنبؤ للتغيرات الجوهرية في المستقبل، وعندما نفكر في طرق إعداد المعلم اليوم ليكون قادرا على مواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي في المستقبل؛ فإن أهم الكفايات التي يجب أن نستهدفها هي تلك الكفايات التي تتعلق بالشخصية أكثر بكثير من غيرها من الكفايات.

فكل جوانب العملية التعليمية يمكن أن تغطيها الأدوات والبرمجيات الذكية بشكل مثالي وفعال يفوق قدرات البشر بنسب جنونية.. أما ما يتعلق بتكوين شخصية المعلم مثل قدراته لقيادة التعلم بالصف، والتواصل الفعال والذكاء العاطفي والتحفيز والإلهام والقدوة وخلق أجواء الود والمرح والإيجابية وبث التفاؤل والحماس في نفوس الطلاب، والقدرة على بناء شخصياتهم وزيادة ثقتهم بأنفسهم وتنمية قدراتهم لمواجهة التحديات، وغرس قيم العلم والعمل والتعلم الذاتي والتعلم مدى الحياة، إنها مهارات حاسمة وفارقة في المرحلة المقبلة، بالإضافة لكل ما يتعلق بمهارات وجدارات الوعي والإدراك بشكل عام.