عبدالحليم البراك

ابن رشد في صورة الشاب رافائيل!

الثلاثاء - 19 مارس 2024

Tue - 19 Mar 2024


في عام 1198 م توفي ابن رشد -رحمه الله - بعد عام واحد من خروجه من النكبة الشهيرة التي حلت به، وبعدها بست سنوات فقط توفي موسى بن ميمون الذي تأثر بشكل غير مباشر بابن رشد والذي قال عن نفسه أنه «درس ابن رشد طيلة ثلاثة عشر عاما» وفي عام 1225 ولد توما الإكويني القديس المسيحي الأكثر تأثرا بابن رشد في العالم المسيحي، وكانت النقطة الأبرز في اكتساب المعرفة من ابن رشد هو رفع ما قاله ابن رشد -رحمه الله - من عدم وجود تعارض بين الحكمة والشريعة في الإسلام فخطا خطوة ابن ميمون في اليهودية وفعل الشيء ذاته توما الإكويني في المسيحية، بل كان أبرز مناصر له هو «تيار الفرنسيسكان» و«جامعة باريس» في ذلك الوقت كان هذا كله في سياق الانبهار غير المحدود في علم المعلم الأول أرسطو وكيف أن ما قام به من تأسيس علم يمكن تعريفه بعبارة مثيرة للغاية وهي أن هذا العلم «يعصم صاحبه من الخطأ».

ويمكن أن نقول «إن انبهار ابن رشد -رحمه الله- بالمنطق الأرسطي الذي جاء على شكل شروحات ومختصرات وإيضاحات ثم ربط المنطق الأرسطي بالشريعة هو أبرز إنجازاته فأثر رحمه الله بشكل عالمي على الأديان الأخرى (اليهودية/ ابن ميمون – المسيحية / توما الإكويني)، وبرغم القناعة التامة بأن الغرب غير منصف وربما كانت هذه الصفة تتوارثها الأجيال الغربية العلمية فـ «أرسطو» لا يرى غير اليونان سوى برابرة وهم جهلة بالفطرة، و«هيجل» يرى بالمعجزة اليونانية وما قبلها لا شيء ولا يبتعد كثيراً عنهم «نتشه» هو الآخر، إلا أن ثمة إنصاف يحدث من هنا وهناك، وبعض هذا الإنصاف جاء بصورة فنية تستحق التأمل والنظر!
في عصر النهضة في إيطاليا في القرن الرابع عشر الميلادي، طلب البابا يوليوس الثاني (1503 – 1513) من الرسام الشاب رافائيل (1483 – 1520) أن يزين غرف جناحه الخاص في قصر الفاتيكان بصورة فنية عملية تليق به، بعدها شرع رافائيل في رسم لوحة جصية على حائط غرفة المكتبة الشخصية للبابا تعكس اهتمامه وانفتاحه على العلم والعلماء مذ نشأة العلم، وقع عقل وقلب الشاب على أن يجمع العلماء على مر العصور في لوحة واحدة وكأنها تظاهرة عالمية لمؤتمر علمي يتضاءل فيه الزمن ولا يبقى إلا العلم والملفت أن الحضور العربي والإسلامي الوحيد في هذه اللوحة هو للإمام أبو الوليد ابن رشد، وكان ابن رشد في هذه اللوحة يبدو في الأمام، فهو الشارح الأكبر للمعلم الأكبر؛ ولذا جاء في مقدمة الصورة وهو ينظر في علم الأوائل، يتطلع ابن رشد رحمه الله إلى (فيثاغورث) وهو يقرأ، وليس ببعيد عن الحكمة الأبيقورية من خلال «أبيقور» نفسه الذي لا يبعد عنه سوى خطوات وعن يمينه اناكسمندر الرجل الذي قال بـ(اللانهائي) كأول مكون للعالم، لكنه يبدو بعيدا عن المعلم الأكبر وصاحبه الذي فتن به، إذ إن أرسطو يبدو في حوار كبير كعادة الكبار مع أفلاطون في منتصف الصورة وعند المدخل.

يمكن الغوص في الصورة أكثر من هذا بالأبعاد غير المرئية، ويمكن – وعلى طريقة النقاد– أن نتأمل أكثر فيما نظن أن الرسام قصده ومالم يقصده، لكن بعيدا عن المبالغات يمكن أن نراها بصورة ذهنية هادئة لا تبتعد كثيرا عن فكرة إجلال العلماء حول العالم، لكن ما لا يمكن أنكاره في الصورة أنها جمعت الكبار وابن رشد معهم. ألا يحدث هذا وهو الناقل والشارح والمختصر لعلم ارسطو للعالم كله؟ أليس هو الأب الروحي للمدرسة الرشدية اللاتينية في الغرب إبان العصور الوسطى في الوقت الذي كانت فيه أوربا تستعد لأكبر حرب دينية في تاريخها «محاكم التفتيش»!
إن حضور ابن رشد في هذه الصورة يعكس صورة ابن الرشد المنفتحة التي غزت العالم كله حتى صارت الرشدية – في الغرب في القرون الوسطى تحديداً- مرادفة للإلحاد في ذلك الوقت، (رفض تيار الدومنيكان الرشدية) أقول هذا عن الصورة التي تشير إلى شيء آخر أيضا، وهو أن ابن رشد بجوار فيتاغورث، الرجل الرياضي الشهير الذي اطبقت نظريته على العالم كله، ربما تعني ابن رشد رياضي في نظر الرسام في الدرجة الأولى وكان فعلا مهتما بالهندسة والرياضة، وربما كانت تورية من الرسام أن حشر ابن رشد بجوار علماء اليونان حتى لا يتم تصنيف الرسام ومن كلفه بذلك بالرشدية لكنها لا يخفى إعجابهم به بدليل حضوره في هذه الصورة الشهيرة!



Halemalbaarrak@