بسمة السيوفي

جاء ..

الثلاثاء - 12 مارس 2024

Tue - 12 Mar 2024

يسري في العروق.. ذاك الفرح الغامر بقدوم رمضان.. يتجدد كل سنة فيتوقف العمر للتأمل والحسابات.. «عام يتولى فيعود الشهر يطلبنا كأننا لم نكن يوما ولا كانا».. هو منحة إلهية لتطهير الروح بالعبادات، والاقتراب أكثر من الطاعات والتكافل بالصدقات.

شهر الله وشهر الصيام والصبر.. شهر القيام والغفران وشهر القرآن، شهر التخلي عن العادات السيئة والتوبة على التقصير، والتوبة عن ارتكاب المعاصي؛ لأن رمضان يتفرد بالخصوصية عن كل الشهور وبالذكر والذكرى.. مع أن الشمس تشرق في كل يوم كما تشرق في بقية الأيام، وتغرب في هذا اليوم كما تغرب في بقية الأيام.

قيمة شهر رمضان في قيمة القرآن الذي أنزل فيه، فيتحول الزمن إلى فرص هداية.. ينفتح فيه الناس على هدى القرآن قراءة وفكرا وحركة».

ولأن للشهر قدسية الشعيرة المباركة.. كانت الإرادة الإنسانية في السياق الإسلامي ملزمة شرعا بالصيام؛ لأنه ركن من الأركان الخمسة.. وكان الإيمان بالعقاب والثواب معززا لضبط النفس في الامتناع عن الطعام والشراب والشهوات؛ فالمفطر عمدا يجب عليه القضاء والكفارة، ما أريد تسليط الضوء عليه في هذا المساق هو شعور الصائم بالاستحقاق.. أي عندما يظن من يصوم أنه يستحق معاملة خاصة من الآخرين لمجرد أن مزاجه ليس كعادته.. وأنه قادر على الحصول على ما يريد في الوقت الذي يريد بالطريقة التي يريد.. مما ينعكس على السلوكيات وأسلوب التعامل مع الآخرين في شهر الصوم.. بينما نجد أن فئة محمودة من الصائمين تشعر بالمزيد من الإيجابية والتفاؤل حيال العمل والإنتاج.. مع ارتفاع للروح المعنوية العامة خلال الشهر رمضان.

أغلب الناس في رمضان بين صنفين مذمومين: إما متأهب حساس، أو متكاسل كثير الشكوى.. أي إما أنه جاهز للغضب والمشاكل أو قائم بالتقصير والتأجيل.. بحجة الصوم.. مع أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وجه الأمة إلى «وإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم».. فكيف يتضاءل الصبر بينما شرع الصيام ليزيد منه؟ كيف والشياطين تصفد على وجه الحقيقة، وتقيد بالسلاسل والأغلال، فلا توسوس للصائم، ولا تؤثر عليه، وإنما تأتي المعاصي من النفس الأمارة بالسوء، وأرى أن معادلة الصوم الصعبة تكمن في ألا نتأرجح بين هذين الصنفين من الناس وأن نتغافل ونتخطى حتى نكتسب الأجر.. الأجر الذي لا يكتمل إلا مع التحلي بالصبر.. وصولا إلى الارتقاء روحيا والسمو نفسيا.

رمضان في جدة.. يرتبط عندي بتزيين البيت واجتماع العائلة والسمبوسك البف.. يرتبط برائحة المستكة في أكواب زمزم، في مطبقية الفول المبخر وشوربة الحبّ والسمبوسك المضفرة مغمسة في الدقة.. رمضان هو ذكريات صوت أمي ومكان جلوس أبي مسبحا قبل الإفطار.. رمضان في السفرة التي تختلف بالتأكيد عن سفر الأيام العادية.. لأن لها نكهتها الخاصة باجتماع أفراد العائلة والأهل.

رمضان يعني تبادل الأطباق اللذيذة فيما بين الجيران والأحباب قبل موعد أذان المغرب بدقائق.. رمضان يعني أيضا عربات البليلة في الحارات والأسواق، والزينة التي تنير الشوارع والأزقة.. رمضان في بسطات البطاطس المقلية وايسكريم التوت.. في التراويح والخشوع والتسابيح.. في مجالس القرآن والذكر.. هو في ذكريات برنامج الشيخ الطنطاوي وانتظار صوت المدفع معلنا دخول وقت الإفطار من أعلى «جبل المدافع» في مكة المكرمة شمال المسجد الحرام.. امتدادا إلى جبل قعيقعان المعروف بأحد الأخشبين.. رمضان هو كل هذا وأكثر.. فما الذي يعنيه رمضان يا ترى عند كل واحد فينا؟

أتى شهر الخير وعلينا أن نزيد من وتيرة التصدق بالوقت عبر التطوع بتقديم الخدمات الاجتماعية والأعمال الخيرية.

علينا أن نركز أكثر على تناول الطعام الصحي المتوازن في الإفطار والسحور.. فنطهر أجسامنا بطرد جميع السموم ولا «نصوم صيام قوم.. تكاثر في فطورهم الطعام».

وعلينا أن نزيد من النشاط البدني في فترات مناسبة وبشكل منتظم، ويفضل الاستفادة من مستويات النشاط والطاقة العالية في الجسم خلال الساعات الأولى من اليوم، وتنظيم الحصول على قسط كاف من النوم لتقليل الإجهاد والتوتر.

كما يجب أن ننظم الجدول اليومي للاستفادة القصوى من الوقت خلال رمضان.. فنتعلم الانضباط وضبط النفس، وتغيير الأنماط الحياتية والعادات المؤذية عبر تغيير الروتين اليومي، رمضان هو حركتنا في تأكيد السعي للهداية ضد التسويف والتأجيل والمماطلة لنخرج من الشهر الفضيل وقد حدث التغيير على المستوى الشخصي والروحي والمجتمعي.

فـ»إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادى مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة»، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فها قد أتى.. ها قد جاء الشهر الكريم.. ليملأ الدنيا شعاعا وليسكب الأنوار فيها من بعيد وقريب.. وهو «فرصة مواتية لنا جميعا لنسأل أنفسنا ما الذي يمكننا القيام به لجعل الأشخاص الآخرين سعداء».

فكل عام وأنتم بخير.

smileofswords@