عبدالحليم البراك

ابن رشد في مفهوم العبادة

الثلاثاء - 12 مارس 2024

Tue - 12 Mar 2024

يتألق الفقيه الأندلسي ابن رشد -رحمه الله تعالى - (1126-1198م) في مفهوم العبادة في كتابه تفسير لكتاب «ما بعد الطبيعة»، إذ يشير إلى أنه «إذ كان الخالق لا يعبد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته سبحانه على الحقيقة الذي هو أشرف الأعمال (يعني البحث في علوم الموجودات) وأحظاها لديه ثم يقول «جعلنا الله وإياكم ممن استعمله بهذه العبادة التي هي أشرف العبادات واستخدمه بهذه الطاعة التي هي أجل الطاعات» وفي السياق نفسه نربط بين ابن رشد - رحمه الله - وبين عصره إذ إنه ممن عاشوا في القرن العاشر الميلادي تقريبا، وهو عصر بدايات النهاية للعصر الإسلامي وقبيل النهضة الغربية بفترة، وكان جديرا بالأمة الإسلامية أن تستنير بمثل هذه الأفكار العملية التي تدعو إلى العمل والبحث والعلم باعتباره هو القائد الأول لمعرفة الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى يعرف بآيته وهي مخلوقاته ويعرف سبحانه بدقة خلقه وإبداعه لهذا الكون ويعرف سبحانه تعالى في تسخير هذا الكون للإنسان، ولو كان مفهوم الطاعة والعبادة لله كما وصفه ابن رشد - رحمه الله - (عن طريق معرفة مصنوعاته ومخلوقاته) لوجدنا كيف يمكن للعلم وثقافة العمل أن يتم ربطها بطاعة لله والتعرف عليه فتكون هذه المهمة من أجل المهام وأعظم التبعات فتحدث تقدما علميا وعمليا يخدم الإنسانية جميعا؛ لأنه قرن بالعبادة فصار العمل عملين، الأول للدنيا وخلافتها في الأرض، والآخر لعبادة الله والتقرب إليه سبحانه، وليس هذا فحسب بل أيضا يمكنها من أن تبسط الدول العربية والإسلامية سلطتها على العالم بعلومها، وهذا الذي لم يحدث من بعده رحمه الله!

ولكن الذي حدث هو العكس تماما ففي وقت ينتظر أن يحتفي العالم بابن رشد وإسهاماته في نقل الثقافة اليونانية للعالم العربي – بل للعالم أجمع - وتسهيل تداولها وفهمها للغة العربية كوفئ رحمه الله بالنكبة التي حلت به، وإحراق كتبه والنيل منه، وفي هذه اللحظة أصبح الغرب أذكى منا وأكثر حظا منا بابننا ابن رشد رحمه الله تعالى، قال مؤرخ العلوم جورج ساترون عنه «ترجع عظمة ابن رشد إلى الضجة الهائلة التي أحدثها في عقول الرجال لعدة قرون. وقد يصل تاريخ الرشدية إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وهي فترة من أربعة قرون تستحق أن يطلق عليها العصور الوسطى، حيث إنها كانت تعد بمثابة مرحلة انتقالية حقيقية بين الأساليب القديمة والحديثة».

لقد حاول ابن رشد رحمه الله أن يعيد للفلسفة هيبتها بعد أن مزقها الإمام الغزالي في كتابه «تهافت الفلسفة»، فأعاد ابن رشد للفلسفة هيبتها بعد رده على الإمام الغزالي - رحمه الله - ردا علميا مقنعا مبينا بأن الفلسفة (الحكمة) ليست كفرا وبرغم أنه قدم حجج قوية كان الهدف منها دفع طلبة العلم نحو العلم الذي هو طريق معرفة الله والإيمان به والسعي في الدنيا، وأنه كلما علمت أكثر كان إيمانك أكثر يقينا بالله سبحانه وتعالى إلا أن العالم الإسلامي ما لبث إلا أنقلب على عقبيه وعاقب ابن رشد رحمه الله بفقد كمية كبيرة مما كتب، وبقي الصوت للدراويش وحلقات التصوف بعيدا عن العلم، وبدلا منا؛ أخذت أوروبا علوم ابن رشد (شروحاته ومختصراته وكتبه) حتى نشأت مدرسة في أوروبا باسمه «الرشدية» أخذت على عاتقها محاربة دور الكنيسية وكهونتها حتى عادت الكنيسة إنتاج ابن رشد والرشدية اللاتينية، بل وأخذت منه اليهودية كما عند موسى بن ميمون من ابن رشد الكثير؛ بينما (لا يوجد في العالم الإسلامي مدرسة أو مذهب في متأثرا بابن رشد رحمه الله) ولا نقول بأن ما يقوله ابن رشد لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، ولا تقديسه لعلوم اليونان بشكل مطلق، لكن ثمة ما يلتمس له العذر في ذلك، وأيضا نقول إنه في بابه من خير خلق الله علما وخلقا وسيرة وحسن نية وإخلاصا في العلم يكاد لا يضاهيه أحد ويلتمس له العذر فيما أخطأ به رحمه الله.

أخيرا، لا يمكننا ولا يسعنا أيضا أن نعود لزمن ابن رشد الأندلسي لكن ما يسعنا أن نستعين في مفهومه لربط العلوم الدنيوية كأشرف العلوم طريقا لمعرفة الله، فأما سيرته وحكمته فهي مدرسة تنظم إلى مدرسة علمه وإنتاجه رحمه الله!

Halemalbaarrak@