سليمان محمد الشريف

‏أول رمضان بلا «أمي»

الأربعاء - 06 مارس 2024

Wed - 06 Mar 2024

وأنا أكبر وأقفز مسافات السنين كان رمضان محطة سنوية عظيمة نترقب دخوله بشغف من كل عام لكي نتوقف في رحابه وجمال لياليه ومساءاته بتركيز ونسير مع مركب رحلاته اليومية من الفجر إلى المغيب ومن بعد المغرب إلى موعد السحر حتى حفظناه بأمان في خزانة الذكريات، أيام صادقة عصف بها الزمن ولكنها حبيسة الروح فريقا من القلب تسري بين الأوردة تأخذ نصيب البدن من الأنفاس.. فهي الحياة!

‏مع دورة السنين وطوال عمري المنصرم «طفلا ويافعا - شابا ثم رجلا» كنت أستقبل بداية كل عام وبداية شهر رمضان وأنا مع «أمي» و»أمي» معي.. ‏كانت «أمي» أجمل ما في الحياة وجزءا كبيرا من روحانية الشهر الفضيل وطقوسه.. كانت الأمان وفضل من أفضال ربي وحسنة الدهر الحسنى.. كانت فرحة السنين ولذة الأيام.. كانت وجها واحدا وجه خير لا ينقبض لبغض وعداء.

‏في كل رمضان من سنوات عمري الراحلة كانت «أمي» نوره الشارق وضياؤه الطالع وقنديل السحر وساعة الفجر.. كانت «أمي» تلك البسيطة الرائعة.. تلك المتواضعة الجاذبة.. تلك الإنسانة العظيمة.. تلك الطيبة الصابرة.. تلك القانعة الراضية.. بهجة الشهر وفرحته.. كنت أنتظر مع «أمي» وكانت «أمي» تنتظر معي شهر الصوم لنتلو حديث الشوق على هتف المؤذن وعرف البخور الفائح.

‏سيحل شهر البركات هذا العام وفي تجويف النحيل ويلات البعد وحرقة الفرقة فأنا يتيم الأم في أول رمضان من عمري.. أول رمضان من عمري و «أمي» ترقد في أحضان قبرها.. ترقد بسلام بأمان في كنف الرحمن.

‏سيهل هلال رمضان «1445» بدونك يا «أمي».. سيعود وستكشف السفر وتهب رياح الأقداح بالألوان.. وتفوح روائح الموائد بما طاب.. سيحل بدونك ولكنه سيزهو بجمال ملامحك يا «أمي» على مقعدك المعتاد كل عام أراك حينما أتلو القرآن وقبل الأذان وبعد سنة التراويح وبين فواصل مساءات رمضان وفي همساتك وفي رائحة طيبك وبخورك.. وفي بعض «خالاتي».

‏يأتي رمضان هذا العام بدون لمساتك يا «أمي» سأفتقد فيه لحسك.. لدعائك.. لضحكاتك.. لطلباتك القليلة.. سيأتي رمضان هذا العام بمذاق مغاير فأنا لم أعشه بدونك قط فكل تفاصيله قد ارتبطت بوجودك.. سأتذكرك يا «أمي» قبل الفطور وبعده وعند ساعات الليل الأخيرة وكلما وقع سمعي على همس.. سأتذكرك كلما فج النور ودنى.. وقبل العيد وصباحه وما أصعب يوم العيد بدونك ففيه صفحات أخرى من الشوق لو وزعت على أكباد باردة لاشتعلت.

‏«أمي» حبيبتي سقطت روحك الطاهرة من سجلات الحياة يا فقيدة حياتي ورحلت بسلام كما كنت تحيين بسلام.. فوداعا لكل السنين الراحلة يا جنة الدنيا ولذة الحياة.. وداعا يا «أمي» وداعا يا حب عمري ويا نبض قلبي.. وداعا يا حبيبتي.. استودعتك الله حتى ألقاك بإذن الله في نعيم الجنة في النعيم الذي لا يزول ولا يحول ولا يفنى.. رحمك الله يا فقيدة قلبي ويا قرة عيني رحمة الأبرار رحمة تجيرك من النار.

‏نقطة أخيرة: ليت الذين أحبهم يبقون أبدا والموتى يعودون. ليت الذين اشتقت إليهم يأتون كل يوم، ترافق أقدامهم خطواتي لحظات، فمن المؤلم أن أسمع أصواتهم ولا أراهم.

soliman_asharef‬ @