عبدالحليم البراك

فضل المراجعات

الاثنين - 04 مارس 2024

Mon - 04 Mar 2024

ونعني بالمراجعات قدرة الإنسان الدائمة والمستمرة على قراءة واقعه والمتغيرات فيه، وإعادة تحليلها بشكل مستمر، ثم إعادة النظر فيما يعمله الإنسان أو يعتقده من أفكار ورؤى قد تكون عرضة للتغيير الضروري، نتيجة تغير المعطيات الداخلة أصلا في الحكم، فيتغير الحكم عليها تبعا لذلك.

ومن هذه المقدمة، يمكن القول إنه يبرز لدينا مفهوم المراجعات المستمرة لكل ما يراه الإنسان ويعتقده ويؤمن به، على المستوى اليومي والعملي وحتى العقلي والإنساني، فإن كانت هذه المراجعات أدت عملها بشكل جيد، من تحسين أداء الفرد، فإنها تزيد اليقين بمصداقية تلك الأفكار التي كنت مؤمنا بها ثم راجعتها ورأيت الثبات عليها، وتجعلك أيضا الإنسان «المتحول الإيجابي» عندما تُراجع بعض الأفكار وتتراجع عنها، إما لنضج في عقلك أو تغير في متغيرات الواقع لديك، أو ثمة دخول جديد آخر كأطراف في اللعبة، وهكذا.

من فضل المراجعات أنها تجعلك الإنسان العقلاني الأكثر تفاعلا مع الحياة، فإن آمنا بأن «الماء لا يجري في النهر مرتين»، على رأي هيراقليطس، فالتغيرات في العالم والآراء والحياة تجبرك على أن تعرف أن ثمة متغيرات أيضا في الأحكام.

كما أن ثمة فضيلة من فضائل المراجعات، وهي تجعلك أكثر حيوية مع الناس والحياة من حولك، فأكثر الناس ثباتا هم الأسرع موتا في أفكارهم وحيويتهم، وتقبلهم لمتغيرات الحياة اليومية.

تتيح المراجعات الفكرية والذهنية عمليات تقييم لأدائك وأداء من حولك، فإن مرتكب الأخطاء باستمرار سيفقد الثقة في رأيه وسيلجأ إلى أولئك الذين تقل لديهم الأخطاء، ويعرفون قدرات أنفسهم، يقلل ذلك من ثقته في نفسه، وربما يطور أدواته بشكل كبير نظرا للخلل لديه، والعكس صحيح، فمن تكثر آراؤه الصحيحة سيكون إنسانا رائعا، وفرصة للاحتكاك به، وعلى النقيض ربما إن لم يراجع نفسه اعتمادا على عنصر الثقة في النفس، سيصيبه الغرور من الثقة المفرطة وباستمرار، ثم تخونه الثقة ليقع في سلسلة من الأخطاء!

المراجعات قد تعصم من الخطأ والوهم أو على الأقل تقلل منه، وقد تعالج الأمراض في الافراد والمجتمعات، وتعمل المراجعات على كشف الخلل وتنويع مصادر معرفة الإنسان، وتعمل المراجعات على كشف الضياع الذي يمكن أن يحدث للإنسان نتيجة انشغاله بالمستجدات التي لا يستطيع أن يلحظ خلالها ما طرأ على الحياة من تغييرات، إذن يكفي المراجعات من فضيلة أن تكون تصحح المسار باستمرار!

والحقيقة، أن المراجعات تحمل تنوعا فتحمل الطابع الفردي الشخصي – ولعل هذا ما أشرت إليه – أو مؤسساتيا أو أهليا، وهو ما تمارسه الحكومات أحيانا، وكذلك المؤسسات والمنشآت، وهذا يدخل ضمن هياكل الدول وشركات التنظيم، وهو ما يمكن التعبير عنه في مراجعات للخطط والاستراتيجيات على مستوى المؤسسات، أو مراجعة الأهداف على مستوى الرؤية، أو مراجعة المتغيرات (مثل متغيرات السوق أو الذوق العام أو حتى التوجهات العالمية!)، بل يمكن للأفراد إسقاطه على طريقتهم بالحياة، كذلك للاستفادة من هذه الفكرة في حياتهم اليومية، لتبقى المراجعات هي قدرة الإنسان على تصحيح مساره بشكل مستمر!

إن الطفل يكبر، وتكبر آراؤه معه، ولا يمكننا في أي حال من الأحوال أن نطلب من الطفل الصغير أن يتوقف عن النمو في جسده، وإن كان جسده ينمو فان عقله ينمو هو الآخر، ولو توقف عقل الطفل عن النمو لاعتبارنا هذه الحالة (حالة مرضية) لكن – والغريب جدا والمؤسف في الوقت نفسه، أننا إذا كبرنا صار الرجل الناضج الذي يغير رأيه في أمر ما – بناء على مراجعات لمعطيات الحدث – أمرا معيبا ومخزيا، وهذا ليس على مستوى التفكير المحلي بل على مستوى الإنساني ككل، حتى بات الثبات على الأفكار ثناء والتحول منقصة، والحقيقة أنه لا التحول ميزة في نفسه ولا الثبات ميزة في ذاته، بل الميزة الحقيقة في «قدرة الإنسان على التنبؤ والتفكير السليم، الذي يفهم فيه المتغيرات من حوله، فيتخذ قرار التحول أو الثبات».

Halemalbaarrak@