خضر عطاف المعيدي

التلطيف اللغوي

الاحد - 03 مارس 2024

Sun - 03 Mar 2024

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني
كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي
-امرؤ القيس.

التلطيف اللغوي ضرب من ضروب الحسن في الحديث يقوم من خلاله المتحدث بانتقاء الألفاظ التي لا ينفر منها الناس أو تلك التي مجها المجتمع وعزف عن تداولها لقبحها أو لشناعتها أو لأثرها على النفس.

ويعرف في الإنجليزية بـ Euphemism وله الوظيفة نفسها كما هو الحال في العربية فيستعمل الإنجليزي -على سبيل المثال - عبارة «Let go» لتعني «مطرود» وعبارة: Vertically challenged لتعني «قصير القامة» وكذلك: Stepping out لتعني «خائن» وما إلى ذلك، ولكن العرب تستعمل «التلطيف» ككناية تكني بها عن الشيء وقد ذكر الجرجاني - رحمه الله - في كتابه الرائع (المنتخب من كنايات الأدباء وإرشادات البلغاء): «واعلم أن الأصل في الكنايات عبارة الإنسان عن الأفعال التي تستر عن العيون عادة - من نحو قضاء الحاجة والجماع - بألفاظ تدل عليها، غير موضوعة لها؛ تنزهها عن إيرادها على جهتها، وتحرزا عما وضع لأجلها؛ فالكناية عنها حرز لمعانيها».

نفهم من قول الجرجاني بأن التلطيف كناية يستعملها المتحدث لتجنب جرح المتلقي.

ويزخر القرآن الكريم بآيات ورد بها التلطيف من ذلك قوله تعالى في سورة النساء: {أو لامستم النساء} حيث وردت لفظة «لامستم» ككناية تلطيفية لعملية «الجماع» بل وفي قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} حيث وردت لفظة «غائط» هنا - وجمعها «غيطان» تلطيفا للتعبير عن المكان المطمئن والمنزوي من الأرض، حيث كان يستتر به الإنسان عن أعين الناس لقضاء الحاجة بل حتى عبارة «قضاء الحاجة» هنا هي عبارة تلطيفية.

وفي الجانب المقابل نجد بأن السنة النبوية قد حوت على الكثير من الأساليب التلطيفية من ذلك قول عائشة رضي الله عنها: (أن النبي كان يصيب من الرأس وهو صائم) فقد وردت لفظة «يصيب» هنا ككناية تلطيفية عن «القُبْلة».

وفي أخبار العرب مندوحة من استعمال «التلطيف» في حديثهم فقد روى صاحب كتاب (المنتخب): عن بنت أعرابي أنها صرخت صرخة عظيمة، فقال لها أبوها: ما لك؟ قالت: لدغني عقرب، قال لها: أين؟ قالت: في الموضع الذي لا يضع فيه الراقي أنفه، وكانت اللدغة في إحدى سوءتيها، فتنزهت بذكرها عن لفظها. وقد سئل العلامة «ابن فارس» كما ذكر ذلك مجموع رسائله: هل على أسير أبي سعد صوم؟ قال: نعم إذا قدر عليه، أو كفر.

وقد وردت عبارة «أبي سعد» ككناية تلطيفية عن «الهِرَم» والشعر العربي يعج بالأساليب التلطيفية من ذلك البيت الذي ذكرته في مقدمة هذا المقال وهو لامرئ القيس، حيث عاتب امرأة يقال لها «بسباسة» والتي اتهمته بأنه قد كبر ولم تعد به باءه للنكاح فرد بالبيت السابق وفيه لفظة: «لهو» حيث استعملها للكناية عن «الجماع».

ومن التلطيف أيضا استعمال «انتقل للرفيق الأعلى» ككناية عن «الموت» ومنه قول العرب للصحراء «مفازة» لأن السفر عبرها في السابق مظنة للهلاك، وقد يستعمل التلطيف -أحيانا- حتى على بعض المهن التي يظن صاحبها بأنها مستقبحة اجتماعيا، وقد سئل رجل «ما صناعتك؟ فقال: زينة الأحياء، وجهاز الأموات» يقصد بذلك بأنه «حائك».

وفي لهجاتنا العربية المعاصرة مندوحة من الأساليب التلطيفية فتسمع مثلا في لهجة «القنفذة» وغيرها عبارة «الصباح رباح» ويقصد بها تأجيل الأمر على الرغم بأن أحمد تيمور استعملها في زمنه للتعبير عن «الوعيد»، وتسمع عبارة: «ما قصرت» لتوبيخ الشخص إن فشل وتستعمل عبارة: «بيض الله وجهك» تلطيفا ويقصد بها: «سوّد الله وجهك» إلى غير ذلك من الاستعمالات.

والهدف المنشود من هذا المقال وهذه الشذرة اليسيرة عن التلطيف رفع مستوى الوعي المجتمعي نحو الاستعمال الأمثل للغة وتجنب «الهجر» -الفاحش من القول- والاستعاضة عنه بحسن الألفاظ وأطيبها، فالنفوس تنفر من كل منفر، وقد أرشدنا الإسلام على حسن الخلق وما نتحدث به منوط به حسن الخلق عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء».

بل وللتلطيف دور محوري في تخفيف الصدمات ووقائع الأقوال على السامع وذلك حينما نريد أن نزف خبر سوء لشخص ما.

ومما يذكر في هذه الصدد أن أحد طلاب الجامعة سافر إلى قريته وأخبر صديقه أن يطلع على نتائجه وقال له إذا وجدتني قد رسبت في مادة فقل «يسلم عليك ناصر» وإن كانتا مادتين فقل: يسلم عليك ناصر وخالد» فلما عاد صاحبه والتقاه في مجمع من الناس قال له: «تسلم عليك القبيلة بأكملها» أي أنه رسب في جميع المواد.