عبدالله السحيمي

البعد الاجتماعي لوثيقة المدينة المنورة

الاحد - 03 مارس 2024

Sun - 03 Mar 2024

إن البعد الاجتماعي للتنمية المستدامة يرى أن الإنسان هو جوهر التنمية وهدفها النهائي، ويهتم بالعدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر، ويحتاج هذا إلى تغيرات جوهرية في الأنظمة الاقتصادية على الأخص.

ولكن هذا التغيير لا يمكن أن يتم إلا من خلال أمر من الأعلى أي من السلطة الحاكمة بل من خلال التعاون بين القطاعات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، وممارسة الديمقراطية الاقتصادية من خلال عملية تشاورية تشاركية تتضمن كل قطاعات المجتمع، وتسهم في التنمية الاجتماعية التي هي عملية تغيير حضاري تتناول آفاقا واسعة من المشروعات التي تهدف إلى خدمة الإنسان، وتوفير الحاجات المتصلة بعمله ونشاطه، ورفع مستواه الثقافي والصحي، والفكري، والروحي، وهذه التنمية تعمل بصورة عامة على استخدام الطاقات البشرية من أجل رفع مستوى المعيشة، ومن أجل خدمة أهداف التنمية».

بمعنى آخر إن البعد الاجتماعي في منظومة التنمية المستدامة يركز على الإنسان، فهو الذي يشكل جوهر التنمية بجميع صورها، وهدفها النهائي من خلال الاهتمام بالعدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر وتوفير الخدمات الاجتماعية إلى جميع المحتاجين لها وغير المحتاجين، بالإضافة إلى ضمان الديمقراطية من خلال مشاركة الشعوب في اتخاذ القرار بشكل من الشفافية والنزاهة واستدامة المؤسسات في ظل التنوع الثقافي.

البعد الاجتماعي مفهوم عام يشمل كل النواحي التي ترتبط بالفرد والجماعة في جوانبهم المادية والإنسانية، أي إننا أمام الحديث عن مجتمع الأفراد داخل وطنهم، وفي مناطقهم المختلفة، وبالتالي، فالبعد الاجتماعي – كما يصف – هو مجموعة العوامل المرتبطة بالعلاقات المتبادلة بين الناس والحياة في المجتمع.

وقد نظمت النصوص الإسلامية العلاقة بين بني الإنسان بعضهم مع بعض وعلاقات الدولة الإسلامية على أساس من التكريم للإنسان، لمجرد أنه إنسان لا فرق بين لون ولون وجنس وجنس وعالم وجاهل ومتقدم ومتخلف، فعلى المتقدم أن يأخذ بيده لا أن يجعله مستغلا ومغنما له ولا يضن عليه بحق الحياة العزيزة الكريمة التي هي حق للإنسان بمقتضى إنسانيته، وبذلك فالمجتمع الذي ينظمه الإسلام يحكم بقواعد عامة وهذه القواعد تبدو في الأسرة وفي الجماعات وفي الدولة مهما اختلفت ألوانهم وأجناسهم وأديانهم، وهذه القواعد تتلخص في المحافظة على الكرامة الإنسانية، والعدالة بكل صورها، والتعاون العام، والمودة والرحمة، والمصلحة ودفع الفساد.

ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم مجرد نبي، وإنما كان أيضا رجل دولة ومشرعا وزوجا وأبا وتاجرا وقاضيا وقائد حرب وأخذت الرسالة النبوية أبعادا جديدة لم يكن من الممكن أن تأخذها أيام سيدنا عيسى، فقد اشتملت على العلاقات الاجتماعية دون أن تفقدها أبعادها الروحية، فالإنسان في القرآن هو خليفة الله في الأرض، وهذه الرسالة لا يمكن أن تنفذ إلا في داخل الجماعة أو الأمة، فالمسلم هو أول من يقتنع أن الله خلقه ليكون مسؤولا عن مصير كل الناس.

وتبدو الأبعاد الاجتماعية في وثيقة المدينة من خلال عدة عناصر وأسس وضعت فيها، وكانت الأساس في البناء الاجتماعي للأمة الإسلامية، منها: المساواة بين أفراد المجتمع، التكافل الاجتماعي ومحاربة الفقر والمساوة بين عناصر المجتمع والعدالة بشقيها والمسؤولية الاجتماعية.

أكدت الوثيقة في مقدمتها على التماسك بين أفراد المجتمع المسلم «المسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أمة واحدة من دون الناس» وبذلك عملت الوثيقة على إذابة كل الفوارق الاجتماعية والطبقية بين أبناء المجتمع الواحد وإقامة الأساس الأول للبناء المجتمعي السليم الخالي من الأمراض الاجتماعية، ويؤكد على هذا التماسك البند الذي يؤكد على المساواة وهو «ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم» وهذا يعني أن ذمة المسلم محترمة أيا كانت مكانته ومكانة أسرته ويستوي في ذلك أيضا الرجل والمرأة، ولم يكن هذا البند مجرد شعار فقد حدث في أحداث السيرة ما أكده، فمن أدخل من المسلمين أحدا في جواره، فليس لغيره حاكما أو محكوما أن ينتهك حرمة جواره هذا، وبذلك أعلنت المساوة بين أفراد المجتمع وبين الرجل والمرأة وهو ما يحاول البعض إخفاءه لوصم الإسلام بأنه لم يعط المرأة حقوقها وانتقص من قدرها.

أكدت الوثيقة على التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع؛ ففي المادة الأولى من الوثيقة أكدت على أن المؤمنين «لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء وعقل»، وبذلك فرضت عليهم مساعدة الفقير وبذل المال له، وهذا حقه على المجتمع، وكذلك معالجة وضع الغارمين المثقلين بديونهم، وهذا يتفق مع رؤية الإسلام للثروة، وأنها ليست هدفا في حد ذاتها، وهذا ما أكدت عليه السنة المطهرة في العديد من الأحاديث الصحيحة، كما أكدت هذه المادة على العطاء الاجتماعي بين أفراد المجتمع، وفي ذلك حماية للمجتمع من انتشار التحاسد والبغضاء بين أفراده وانتشار الحب والتعاون والبعد عن الأمراض الاجتماعية التي تسببها تجمع الثروة في فئة واحدة لا تقوم بواجبها تجاه باقي الفئات.

كما نصت على أن مسؤولية الدية والفداء هي مسؤولية اجتماعية تقع على عاتق المجتمع تجاه أفراده، وهذا مما يزيد من الترابط بين عناصر المجتمع «وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماؤهم في سبيل الله» أي أنهم متناصرون متعاونون في التعويض عن الخسائر في الأنفس والأموال التي أصابت البعض منهم.

وفي إطار التماسك المجتمعي الذي أكدته الوثيقة وضعت الضوابط لعدم الخروج عليه والتسبب في إيقاع الخلاف بين عناصره فأكدت (أنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه) و (أن من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل).

يتضح مما سبق أن من أهم سمات المجتمع الإسلامي ظهور معنى التكافل والتضامن فيما بين المسلمين بأجل صوره وأشكاله، فهم جميعا مسؤولون عن بعضهم في شؤون دنياهم وآخرتهم.

وإن عامة أحكام الشريعة الإسلامية إنما تقوم على أساس هذه المسؤولية، وتحدد الطرائق التنفيذية لمبدأ التكافل والتضامن فيما بين المسلمين.

أشارت الوثيقة إلى بعد اجتماعي بالغ الأهمية وقد تكون الوثيقة الأولى في التاريخ التي أشارت للرأي العام وأهميته، فقد أكدت على المؤمنين القيام على كل خارج عن آداب الإسلام ومرتكب للقضايا كافة «ولا يحل لهم إلا قيام عليه».

وأكد محمد أبو زهرة على أهمية الرأي العام بقوله: «الرأي العام له رقابة نفسية تجعل كل شرير ينطوي على نفسه فلا يظهر وكل خير يجد الشجاعة في إعلان خيره، فلا يهذب الأحاد إلا الرأي الفاضل ولا يفسد الجماعة إلا الرأي العام الذي يتقاعد عن نصرة الفضيلة ويترك الرذيلة تسير رافعة رأسها؛ لذا أوجب الإرشاد العام ليمتنع الضال عن شره بإرشاد الفاضل وهدايته؛ ولتكون الجماعة في فضيلة ظاهرة»

والوثيقة إذا أكدت أن المؤمنين المتقين على من بغى منهم زادت على ذلك ولو كان ولد أحدهم؛ ففائدة المجتمع والنفع العام مقدم على العاطفة الشخصية والنفع الخاص وبذلك أقرت أن الظالم الباغي يحاربه المجتمع كله بما في ذلك أهله.

نصت الوثيقة على الاختلاف وحرية الأديان ومتبعيها وحرمة أنفسهم وأسرهم وأموالهم فأقرت بأن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأقرت لغير المسلمين من اليهود الذين ارتضوا أن يسلموا قياد أنفسهم للمسلمين بالحماية التامة «وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر ولأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم».

كما أكدت الوثيقة على ملمح اجتماعي بارز وهو المسؤولية الفردية، فكما أكدت على المسؤولية المجتمعية أقرت واعترفت بالمسؤولية الفردية؛ فللفرد وحده تحمل مسؤولية أعماله «والذي يظلم منهم أو يأثم، فيحمل وزر ظلمه وإثمه، (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، «ولا يهلك إلا نفسه وأهل بيته».

ومن أهم الأبعاد الاجتماعية التي وردت في وثيقة المدينة وكان الأساس الذي بني عليه بعد ذلك فكرة العدل، وقد قسم العلماء المحدثون العدالة إلى ثلاث أنواع يجمل بنا أن نذكرها بإيجاز وهي:

1 - عدالة فردية تتمثل بضبط الإنسان حقه فلا يتحيف على حقوق الآخرين ولا يعتدي عليها.

2 - العدالة أمام القانون: حيث يكون التشريع عاما للكل ولا يجوز أن يكون تشريعا لليهود مثلا وآخر للغرباء.

3 - العدالة الاجتماعية: ونعني بها تهيئة الفرص بجميع أفراد الشعب فلا يحرم فقير لفقره ولا يتمتع غني لغناه ولا يسمح بتميع الثروة بأيدي قلة وحرمان الجمهور، فتنص الوثيقة على إنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلى أن يرضى ولي المقتول، وكذلك على أن الرسول هو القاضي الأعلى لتحقيق العدل في المجتمع» إنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله –عز وجل - وإلى محمد»، ونصت على «وأنه من فتك فبنفسه إلا من ظلم، وأن الله على أثر هذا» كل هذا يؤكد على فكرة العدالة بشقيها.

بهذه الحكمة، وبهذه الحذاقة، أرسى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قواعد مجتمع جديد، وكانت هذه الظاهرة أثرا للمعاني التي كان يتمتع بها أولئك الأمجاد بفضل صحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعهدهم بالتعليم، والتربية وتزكية النفوس، والحث على مكارم الأخلاق، ويؤدبهم بآداب الود والإخاء والمجد والشرف والعبادة والطاعة، وبجانب هذا كان -صلى الله عليه وسلم - يحث حثا شديدا على الاستعفاف عن المسألة، ويذكر فضائل الصبر والقناعة، وكان يعد المسألة كدوحا، أو خدوشا أو خموشا في وجه السائل، اللهم إلا إذا كان مضطرا.

وبذلك يمكننا أن نقول: «إن مولد المجتمع الإسلامي نفسه إنما كان ضمن هيكل متكامل للدولة، وما تنزلت تشريعاته إلا ضمن قوالب من التنظيم الاجتماعي المتناسق من جميع جهاته وأطرافه، وهذه الوثيقة أكبر شاهد على ذلك».

@Alsuhaymi37