سالم الكتبي

تحولات الدور الصيني عالميا

الاحد - 03 مارس 2024

Sun - 03 Mar 2024

يدرك المتخصصون في العلاقات الدولية قدر التفكير الاستراتيجي الصيني وما يتسم به من رصانة وحكمة وهدوء تراكم على مدار قرون وعقود طويلة تتجسد في تعاطي القادة الصينيين مع التطورات الاستراتيجية الحاصلة عالميا من حولهم بقدر هائل من الهدوء والصبر، والتعامل دبلوماسيا خلف الأبواب المغلقة بدرجة تفوق بمراحل ما هو معلن من بيانات وتصريحات؛ لذا لا تبدو الصين في عجلة من أمرها للصعود إلى قمة هرم النظام العالمي، وهي تدرك أن معظم التحولات الجارية دوليا تصب في مصلحتها، وأن من الضروري تفادي أي محاولات استدراج تستهدف الزج بها في أتون صراعات وحروب استباقية للقضاء على طموحاتها الاستراتيجية قبل اكتمال الظروف المواتية لإنضاجها.

في ضوء ما سبق، يمكن فهم ردود الفعل الصينية حيال الكثير من الأزمات والصراعات التي يشهدها العالم وبالأخص في أوكرانيا أو الشرق الأوسط، وحيث تتحرك الدبلوماسية الصينية بقدر عال من الهدوء والثبات مع التركيز الكبير على تحقيق أهداف السياسة الخارجية الصينية، ولاسيما فيما يتعلق بترسيخ مبادئ القانون الدولي، التي تحرص الصين على الدفاع عنها على مر السنين، وفي مقدمتها بطبيعة الحال الحفاظ على سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية والذي يعد من أبرز المبادئ التي تهم صانعي القرار الصيني بحكم ارتباط بكين بمسألتي تايوان والتدخلات الغربية المتكررة في شؤونها الداخلية تحت مسمى الدفاع عن حقوق الإنسان وغير ذلك من ملفات وقضايا تثير حفيظة الجانب الصيني.

ومنذ اندلاع حرب أوكرانيا، بدا الموقف الصيني أقرب إلى الحياد الاستراتيجي، حيث حرصت بكين على إظهار موقف محايد رغم علاقات الشراكة الاستراتيجية المتنامية «وصداقة من دون حدود» تربطها مع روسيا، وهو ما وصفه المراقبون بسياسة إمساك العصا من المنتصف لأسباب بعضها يرتبط برغبة بكين في تفادي تصاعد الخلافات الاستراتيجية والتوترات القائمة بالفعل مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، فيما يرتبط بعضها الآخر بأهمية الحفاظ على المصالح الاستراتيجية الصينية الكبيرة مع أوكرانيا (محطة حيوية ضمن مشروع الحزام والطريق) وروسيا معا، ورغبة الصين في تعزيز دورها ونفوذها العالميين من خلال محاولة الاضطلاع بمسؤولياتها الدولية كقوة كبرى عبر دور وساطة استهدف التوصل إلى تسوية للأزمة الأوكرانية، ولا سيما أن الحرب الأوكرانية لها تداعيات اقتصادية كبيرة على الاقتصاد الصيني، وإن كانت جردة حساب الربح والخسارة النهائية تشير إلى تفوق المكاسب الاستراتيجية الصينية على الخسائر بمراحل.

تحليلا، من المهم فهم موقف الصين تجاه الأزمات الدولية المتكررة من زاوية مصالح بكين الاستراتيجية سواء فيما يتعلق بإدارة العلاقات المعقدة مع الولايات المتحدة وحلفاء «الناتو»، أو من خلال فهم المردود الاستراتيجي العائد على الصين في ظل تورط خصومها الاستراتيجيين في صراعات تستنزف الكثير من قوتهم الشاملة، وتوفر دروسا مجانية للصين للتعامل مع مثل هذه الأزمات والرد عليها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية على المديين القريب والبعيد، وتفسيرا لما سبق نقول: إن الصين تدرك منذ بداية أزمة أوكرانيا أنها تمثل «سيناريو محاكاة» لما يمكن أن يحدث في حال ارتأت الصين ضم جزيرة تايوان بالقوة، حيث توافرت الظروف لمتابعة حدود القوة العسكرية الغربية في التعاطي مع أزمات مماثلة، فضلا عن إدراك طبيعة ردود الفعل الغربية وشبكة التحالفات التي تتوافر في ظروف مشابهة لسيناريوهات مشابهة لما قد يحدث حال نشوب صراع في شرق آسيا.

في إطار هذا التوازن الدقيق الذي انتهجه صانع القرار الصيني، امتنعت بكين عن التصويت على قرارين لإدانة العملية العسكرية الروسية في مجلس الأمن الدولية، وحرصت على إبراز قوة العلاقة بين الشعبين الصيني والأوكراني، وطرحت مبادرة وساطة لم تحظ باهتمام غربي ملموس، والحقيقة أنها لم تحظ كذلك بتشجيع روسي يتماشى مع مستوى العلاقات بين البلدين، حيث انطلقت المبادرة الصينية من مبادئ تهم بكين بالدرجة الأولى مثل ضرورة احترام سيادة الدولة الوطنية ومبادئ الأمم المتحدة والقانون الدولي، وإنهاء «عقلية الحرب الباردة» ورفض أي عقوبات أحادية الجانب بمعزل عن الأمم المتحدة، وهما نقطتان تثيران حفيظة الطرفين الروسي والغربي على التوالي، وبدا أن بكين تحاول توظيف الأزمة في ترسيم حدود الموقف الدولي في الظروف المشابهة مثل تايوان وغيرها.

كان من المهم بالنسبة للدبلوماسية الصينية أن تنتهز الفرصة التي أنتجتها حرب أوكرانيا لقيادة تكتل يتبلور بهدوء على صعيد «الجنوب العالمي» وهو تكتل يتجاوز أهداف «بريكس» ليشمل كسر هيمنة النفوذ الغربي بشكل عام، وقد تعزز هذه التوجه خلال حرب غزة، حيث تتفاقم أزمة الثقة بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة ومعظم دول الجنوب التي لا ينظر الكثير منها باستياء حيال إسرائيل بقدر منسوب الغضب الذي يستشعره تجاه تخلي الولايات المتحدة عن دورها المفترض في قيادة النظام العالمي، وهو ما ينتج ظروفا دولية مواتية للدبلوماسية الصينية التي تصعد بهدوء لملء الفراغ الاستراتيجي الناجم عن انحسار الدور الأمريكي.

مؤخرا، صدرت إشارة صينية مقلقة للغرب، حيث أعلن وزير الدفاع الصيني دونغ جون، أن بكين لن تتخلى عن دعم موسكو في المسألة الأوكرانية، وأضاف الوزير الصيني خلال مباحثات مع نظيره الروسي سيرغي شويغو: «لقد قدمنا لكم الدعم في القضية الأوكرانية على الرغم من أن الولايات المتحدة وأوروبا تواصلان الضغط على الجانب الصيني.

حتى التعاون الدفاعي بين الصين والاتحاد الأوروبي يتعرض للهجوم، لكننا لن نحيد أو نتخلى عن السياسات القائمة بسبب ذلك. لا يجوز لهم ولن يستطيعوا التدخل في التعاون الروسي الصيني»، وقال: «باعتبارنا القوتين الأكثر أهمية والرئيسيتين في العالم، علينا الرد بشكل حاسم على التحديات العالمية الشاملة».

وهذا البيان اللافت الذي يتحدث بشكل مباشر ومن دون مواربة عن دعم صيني لروسيا وليس موقفا محايدا، كما يشير إلى أن البلدين هما «الأكثر أهمية والرئيسيتين في العالم»، يعكس قدرا ملموسا من التحول في الموقف الصيني باتجاه إظهار النفوذ واستعراض القوة والتخلي بحذر عن الحياد، وهو أمر يصعب قراءته بمعزل عما يحدث بشكل متسارع من تراجع للنفوذ الأمريكي عالميا، وجمود المشهد الأوكراني لمصلحة روسيا وضعف قدرة الغرب على تحقيق أهدافه في مجمل الأزمات التي يعانيها العالم.

@drsalemalketbi